الإنسان السوداني المهدور
في العام 2001 أصدر عالم النفس والمفكر اللبناني مصطفى حجازي دراسة إجتماعية نفسية بعنوان ( التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور)، ثم أردفها في العام 2005 بدراسة أخرى تحت عنوان ( الإنسان المهدور) يطرح فيهما رؤية عميقة لتوظيف علم النفس في تحليل قضايا التنمية الإنسانية.
موضوع مقالي اليوم يستخدم بعض الصور التي رسمها حجازي للناس في إطار تناوله لمفهوم “الهدر” وعلاقة الإنسان المهدور بالمتسلط في المُجتمعات المتخلفة، وفي هذا الإطار لا بد من تقديم شرح مقتضب للرؤية التي بسطها الكاتب في دراسته عن الإنسان المهدور.
يرى حجازي أنَّ دراسة علاقة المتسلط بالإنسان في المجتمعات المتخلفة تتطلب منَّا تجاوز شعارات “الحرية والديمقراطية” التي يعتقد أنها من فرط تداولها وتكرارها قد تحولت إلى عمليات تجميل وتغطية وتمويه، ويدعو للتركيز على الحديث المباشر حول ما يُسميه “مثلث الحصار الفعلي والمادي” الواقع على الإنسان.
المقصود بمثلث الحصار عند حجازي هو : حكم المخابرات والبوليس السياسي كركن قاعدي للمثلث، يُتمِّمهُ ويُعزِّزهُ ركنا العصبيات (القبيلة) والأصوليات (الدينية أو الآيديولجية)، ومن هنا فهو يرى أنَّ هناك مستوى أخطر من إنعدام الديمقراطية والحريات وهو مستوى “هدر إنسانية الإنسان” وعدم الإعتراف المسبق بكيانه وقيمته وحصانته، هذا الهدر في رأي حجازي أكثر جذرية من القهر الناجم عن غياب الديموقراطية.
ولكن ماذا تعني كلمة “هدر” في اللغة ؟ يُعرِّف “القاموس المحيط” الهَدَرُ، بفتح الهاء والدال، بأنه “ما يَبْطُلُ من دم أو غيره” أي ما يُستباح ويمكن سفحهُ في حالة من زوال حرمته التي تحصِّنهُ ضد التعدي عليه .
إنَّ مفهوم “الهَدَرُ” عند حجازي يتفاوتُ من إباحة إراقة دم الإنسان في فعل القتل أو التصفية الجسدية كحد أقصى إلى إستبعاده وإهماله والإستغناء عن فكره وطاقاته بإعتباره عبئاً أو كياناً فائضاً عن الحاجة.
الأمر المهم في هذا الإطار هو أنَّ “الهدر” بالنسبة لحجازي يمثل حالة منقطعة الصلة بمسألة الديمقراطية وغيابها، ففي حالة غياب الديموقراطية يكون هناك إعترافاً من قبل المتسلط بكيان الآخر وحرمته مع التنكر لحقوقه في التعبير والمشاركة في صنع مصيره، أمَّا في وضع الهدر فإنَّه لا يوجد إعتراف بكيانه أصلاً.
قام مصطفى حجازي برصد صور الناس من خلال كيفية التعامل معهم من قبل “مثلث الحصار الفعلي والمادي” الذي أشرنا إليه ، فرسم لهم ثلاث صور سلبية هي : الناس الأدوات والناس العقبة والناس العبء.
“الناس الأدوات” هم الذين يتم التلاعب بهم وبمصيرهم لخدمة سطوة السلطة وتوطيد أركانها، أو تأويل وجودها في صراعها مع السلطات الأخرى، الناس أداة المستبد يزج بهم في الحروب، أو يستخدمهم للترويج لعظمته وعلو شأنه، في مختلف عمليات التبجيل والتطبيل، أبرز مثال على ذلك توظيف أقلام المثقفين والإعلاميين في تمجيده وخوض معاركه ضد خصومه، والناس هم كذلك أداة العصبيات “القبيلة” لتعزيز شوكتها، العصبيات تلتهم أبناءها كي تتغذى وتقوى، وبدون عملية الإلتهام هذه فإنها يمكن أن تضعف أو تذوي وقد تموت، والناس أيضاً أداة الأصوليات من خلال استقطاب الأتباع وقولبتهم فكرياً وإيديولوجياً، وتحويلهم بالتالي إلى مبشرِّين بشعاراتها، وأخطر منه استخدامهم وقوداً في حروبها المقدسة ضد الأعداء الضالين !
أما “الناس العقبة” فهم الخصوم الذين يشككون في شرعية المستبد، والذين تشن عليهم المخابرات حربها التي لا هوادة فيها تحت ذريعة مطاردة أعداء الوطن والاستقرار والأمن العام إذا سوَّلت لأحدهم نفسه بأن يتجرأ على التساؤل حول مشروعية ممارساته، كذلك فإن العصبيات، كما الأصوليات تطارد كل من تسوِّل له نفسه الخروج من الولاء للعصبية باعتباره عقوقاً أو ضلالاً يستحق النبذ والطرد، وصولاً إلى إهدار الدم.
الصورة الثالثة يمثلها “الناس العبء” وهم الشرائح الزائدة عن الحاجة في المجتمع، حيث يستحوذ خمس السكان على جل الخيرات والثروات ولا يتركون للأخماس الأربعة الباقية إلا الفتات، شرائح بأكملها، ومناطق بأكملها تعتبر عبئا على رفاه السلطات وراحة بالها، إنها تلك الكتلة البشرية المكررة والتي لا لزوم لها، والتي تضيق السلطات بوجودها وباحتياجاتها ناهيك عن حقوقها.
أتناول في هذا المقال مثالاً واحداً فقط من أمثلة الهدر المتعددة التي يعيشها الإنسان السوداني جرَّاء الإستبداد المتطاول، وهو المثال المتعلق بالهدر الناتج عن “حروب القبائل” المتصاعدة بوتيرة كبيرة منذ سنوات.
دفعني لتناول هذا المثال حدث الإقتتال الذي وقع الأسبوع الماضي بين رجال القبائل من “الكبابيش” و”الحمر” في ولايتي شمال وغرب كردفان، وهو الحدث الذي أودى بحياة أكثر من 90 شخصاً وإصابة العشرات، وقيل أن السبب فيه كان سرقة بعض الإبل.
في شهر يوليو من عام 2014 قام كاتب هذه السُّطور بعملية حصر لأعداد القتلى في المواجهات القبلية في دارفور وكردفان في أقل من عامين ، و إعتماداً على أرقام نسبتها الصحف لجهات حكومية ومنظمات دولية وشهود عيان وكانت المحصلة كالتالي :
في مطلع يوليو قتل أكثر من 75 شخصاً في الصراع بين قبيلتي الحمر والمعاليا، وفي مايو 2014 قتل 28 شخصأ في الصراع بين القبيلتين. وأكدت الأمم المتحدة في وقت سابق أن 38 قتلوا في نفس الصراع في ديسمبر 2013.
في مطلع يوليو كذلك تجدد القتال بين قبيلتي المعاليا والرزيقات مما أدى لمصرع 31 شخصاً . الصراع بين القبيلتين أدى لمقتل أكثر من 500 شخص منذ العام 2013.
الصراع بين “بطني” قبيلة المسيرية – أولاد عمران والزيود أدى لمقتل 44 شخصاً.
قتل العشرات في تجدد القتال بين قبيلتي السلامات والمسيرية في يونيو 2014. وبحسب تقارير حكومية فإنَّ أكثر من 1000 شخص قتلوا في الهجمات الانتقامية المتبادلة بين القبيلتين.
وفي يونيو 2014 قتل 6 أشخاص في تجدد الاشتباكات بين قبيلتي البني حسين والرزيقات. وخاضت القبيلتان معارك طويلة بينهما العام الماضي راح ضحيتها أكثر من 2000 شخص.
حصيلة القتلى في هذه المدة القصيرة فقط قاربت ال 4000 شخص (أربعة آلاف)، هذا غير مئات الجرحى والمصابين، إضافة للأضرار والخسائر المادية !
ومنذ تاريخ حصر أعداد القتلى في 2014، وحتى اليوم وقعت العديد من الإشتباكات القبلية الأخرى التي راح ضحيتها المئات من الناس.
دون الخوض في أسباب النزاعات القبلية، وهى أسباب متعددة ومستمرة منذ عهود متطاولة، فإنَّ تساؤلات مشروعة تنهض في هذا الخصوص عن دور “الركن القاعدي” في مثلث الحصار الذي تحدَّث عنه حجازي، خصوصاً إذا علمنا أنَّ الدولة ظلت تنفق حوالى 80% من ميزانيتها على الدفاع والأمن منذ سنوات طويلة.
لماذا لا يتمُّ التعامل مع هذه النزاعات القبلية “كقضية أمن قومي” تستدعي وضع إستراتيجة للتنبؤ والمنع والإحتواء ؟ لماذا يأتي تدخُّل الأجهزة الأمنية عادة متأخراً “لعدة أيام” بعد إندلاع الإشتباكات الدامية التي يروح ضحيتها العشرات والمئات ؟ لماذا يتم التحرك على وجه السرعة وبكفاءة عالية عندما يتم إختطاف مواطن من دولة أجنبية في دارفور بينما لا يحدث ذات الشىء مع الصراعات الدامية ؟
قد أجبرت الدولة المواطن السوداني – بغير رغبةٍ منه – على التنازل عن حقوقه في مجانية التعليم والعلاج وغيرها من الحقوق، وقالت أنَّ الأولوية في الصرف يجب أن تكون للأجهزة النظامية، وذلك من أجل توفير الأمن للمواطن، ومع ذلك فإنّ حروب القبائل مستمرة دون هوادة في حصد الأرواح دون وجود إستراتيجية أمنية لمكافحتها، فكيف نفسِّر ذلك ؟
أمَّا ضلع المثلث الآخر (القبيلة) نفسها، فإنها في هذا الإطار تلعب الدور المُكمِّل لدور الركن القاعدي، بحيث أنها بتعبير حجازي” تلتهم أبناءها كي تتغذى وتقوى” وتُعزِّز شوكتها عبر هذه الصراعات العبثية، و من هنا يبدو وكأن إتفاقاً سرياً قد أُبرم بين ضلعي مثلث الحصار للتخلص من إنسان القبيلة “الإنسان العبء” !
قد تحوَّلَ كثيرٌ من زعماء القبائل إلى “مقاولي حرب” يزجون بأبناء قبائلهم في صراعاتٍ لا طائل منها لأجل توطيد النفوذ وتحقيق المكاسب المادية والسلطوية، ويدخلونهم في حروب الثأر الدامية الطويلة التي يتسبَّب فيها قتل بعير، حربٌ أشبه بحروب العرب التي تستعر لأتفه الأسباب، تلك التي حذَّر منها نزار : (وحتى لا يتقاتلَ الرجالُ مع الرجالِ من أجلِ حَفْنةِ كُحْلٍ / وحتى لا يسيلَ دمُ التاريخ من أجل غزالَة ).
إنَّ هذا الموت المجَّاني لآلاف البشر يعكسُ مدى الهدر الذي يُعانيه الإنسان السوداني، وهو كذلك يدعو للنظر في الدور الذي يلعبه “الإنسان الأداة” ممثلاً في أجهزة الإعلام في هذا الخصوص، فمن الملاحظ أنَّ أخبار القتل وإزهاق الأرواح لا تأخذُ إلا حيِّزاً محدوداً في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، وقد أضحت من طريقة تناولها و فرط إعتياد الناس عليها “باردةً” لا تُحرِّكُ ساكناً !
أمَّا تواطؤ الضلع الثالث في مثلث الحصار، فإنه لا يحتاج لدليل، فأنصار الآيديلوجيا الحاكمة يُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها في سبيل حشد الناس وتعبئتهم من أجل نصرة المسلمين في فلسطين و الشيشان وأفغانستان، وهُم كذلك يملأون منابر المساجد هتافاً وزعيقاً حول “زواج التراضي” بينما لا يقيمون وزناً للصراعات القبلية الدامية ولآلاف الأرواح المُزهقة، ولا يُسيِّرون تظاهرة واحدة في شوارع الخرطوم لإستنكار القتل المجاني والمطالبة بوقفه، فتأمل !
إنَّ مثال “حروب القبائل” الذي تناولناه في هذا المقال ليس إلا مثالاً واحداً يعكسُ الحد الأقصى لمفهوم الهدر المُعبَّر عنه بالقتل وإزهاق الروح، ولا شك أنَّ هناك أمثلة أخرى يُعبِّر عنها هذا المفهوم، وهى أمثلة لا تقتصرُ على إستبعاد الكفاءات البشرية وإهمال أصحاب المواهب و القدرات، وإجبار ملايين المواطنين على مغادرة البلاد بحثاً عن الحرية و مورد الرزق، بل تشملُ جوانب كثيرة سنعمل على تحليلها في مقالاتٍ تالية