كريم العراقي.. الرجل الذي غزل الشعر من المفردة اليومية
قبل أيام قليلة، في الأول من سبتمبر/ أيلول 2023، رحل عن دنيانا الشاعر الغنائي البارز “كريم عودة”، المعروف في الأوساط الأدبية باسم “كريم العراقي”، عن عمر ناهز 68 عاما، في أحد مستشفيات العاصمة الإماراتية أبو ظبي، بعد معاناة مع مرض السرطان استمرت نحو 3 أعوام. والشاعر الذي تميزت قصائده بالبساطة والعمق في آن واحد، من مواليد عام 1955 في محلة الشاكرية منطقة كرادة مريم، درس في معهد دار المعلمين في بغداد، ثم حصل على دبلوم في الموسيقى وعلم نفس الطفل.
عمل كريم في حقل التدريس والإشراف الفني في وزارة التربية والتعليم العراقية، قبل أن يتفرغ لكتابة الأوبريت والمسرح المدرسي. بدأ العراقي مسيرته بكتابة أغاني الأطفال، التي اشتهرت من خلال برامج الأطفال في إذاعة وتلفزيون العراق، كما تضمنت المناهج الدراسية في مرحلة التعليم الأساسي العديد من أشعاره، مثل قصائد “أقول شكرا” و”سالم يا عراق” و”أختي الصغيرة”، كما أن قصيدته “سيدة الصبر” تُرجمت إلى اللغة الدانماركية، وأصبحت ضمن المنهج الدراسي الجامعي في كوبنهاجن.
شغل العراقي عدة عضويات أدبية، منها: عضوية اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، واتحاد الكتاب والأدباء الإماراتيين، كذلك حاز عضوية اتحاد الكتّاب في السويد، وجمعية مؤلفي وناشري الموسيقى العالمية في باريس. كما حاز العديد من الجوائز على المستويين العربي والعالمي، منها جائزة الأمير عبد الله الفيصل العالمية للشعر العربي عام 2019، وجائزة اليونيسيف عن قصيدة “تذكر” التي لحنها وغناها المطرب العراقي كاظم الساهر، وجاء في بيان الجائزة أن القصيدة خطاب إنساني يترجم عذابات أطفال العراق.
مؤلفات كريم غزيرة ومتنوعة، فقد مارس جميع الألوان الأدبية، ولم يقتصر على فن القصيدة فقط. وقد بدأها بديوان شعري بعنوان “المطر وأم الضفيرة”، صدر عام 1974 في بغداد، تلاه 12 ديوانا شعريّا، بالإضافة إلى ألبومات صوتية تحتوي قصائد بصوته، هي: المحكمة، هنا بغداد، كثر الحديث، يا ابن آدم، يا شاغل الفتيات، نخلة جدي، الطباخ المرح، حروف المعرفة، الغواص واللؤلؤ، أطفال يتحدون الإعاقة، وفدى عينيك، الأمومة وبستان جدي. أما في المسرح، فقد كتب العراقي 4 مسرحيات، منها 3 مسرحيات عُرضت في العراق، وهي: يا حوته يا منحوتة، عيد وعرس، يقظة حواس، ومسرحية قوس المطر التي عُرضت في دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي مجال الغناء، ألّف العراقي أكثر من 500 قصيدة وأغنية، بينما في مجال السرد، نجد رواية الشاكرية الصادرة في بغداد، والتي تأتي على لسان الطفل أمين، ويتذكر عبرها طفولته في منطقة الشاكرية إبان حكم عبد الكريم قاسم خلال ستينيات القرن الماضي.
انخرط العراقي أيضا في مجال السيناريو والحوار، وكتب أفلام “افترض نفسك سعيدا” و”مخطوبة بنجاح ساحق” وفيلم الأطفال “الخياط المرح” وفيلم “شباب شياب” من إخراج ياسر الياسري، فيما نال جائزة دائرة السينما والمسرح عام 1990، مناصفة مع قاسم الملاك، عن سيناريو فيلم “عريس ولكن”، وأحداثه تدور حول يوميات قارئ مقياس كهرباء يعمل في أحد أحياء بغداد.
سنوات النشأة والطفولة
في حواره مع الكاتب “وداد يوسف”، حكى العراقي عن ميوله الأدبية في فترة طفولته، حيث راودته الرغبة في كتابة كلمات الإعلانات التلفزيونية، وأن يضمّن مفرداتها بمفردات من أدواته المدرسية، مثل المبراة والممحاة والقلم، وأتت أولى قصائده مثل ترنيمة بسيطة، على حد وصفه، إذ بدأ في ترديدها ضابطا الإيقاع عبر النقر فوق حقيبته المدرسية، بينما يردد أصدقاؤه ذلك اللحن معه.
يضيف العراقي: “وأنا دون العاشرة بدأت القراءة والعمل بأحد المقاهي في العطل المدرسية، مصغيا للأغاني التي كان يصدح بها المذياع لإمتاع روادها، وسرعان ما كنت أحفظها وأرددها، وبدأ الزبائن يطالبونني بغناء الأغنية الشعبية، ممارسة صقلت لدي مهارة ضبط الإيقاع والوزن للألحان”(1).
كان كريم شغوفا بالقراءة منذ صغره وعلى الدوام استهلكت الكتب والمجلات نقود الصغير، بينما لم يكن يحفل بالملاحظات السلبية التي يوجهها إليه الأقارب بخصوص تعلقه الزائد بالكتب، وهو يذكر على وجه التحديد عناوين من التراث الشعبي الذي سوف يصبح بؤرة اهتمامه فيما بعد، مثل ألف ليلة وليلة وسيرة الزير سالم، حيث كان يرويها لأصدقائه بأسلوبه بعدما يفرغ من قراءتها، ما أنمى لديه أسلوبا وقدرة على إعادة صياغة الأفكار والأحداث.
رافد آخر يراه العراقي سببا لتعلقه بالتراث الشعبي، وهو حكايات جده لأمه الذي كان يعمل حارس بستان، حيث حكى عن أمسيات طفولته، وكيف كان يرقد بين الأشجار في الليل خلال زياراته لجده، جوارهما الكوخ وأمامهما موقد الجمر، فيما يخترق أنفه شذى نباتات عطرية ومن حولهما طنين الحشرات، والجدّ يمضي الليل في قصّ الحكايات الخرافية والشعبية التي يستمع إليها الصبي بشغف، قبل أن يعيد روايتها على أصدقائه أو يضيف إليها من مخيلته في أحيان.
ويدين العراقي بالفضل إلى أستاذه “حسن الشرع”، الذي خصص له 10 دقائق أسبوعيّا في درس المطالعة، كي يقرأ الجديد من أشعاره على زملائه، وهي اللفتة التي أكسبته الثقة بالنفس وزادته جرأة على التعاطي مع الشعر، وتجاوز من خلالها الخجل الذي كان يتملكه على حد تعبيره. مثلما نصحه الأستاذ بالتركيز على فن الشعر، إلا أن العراقي لم يتمكن من الالتزام بنصيحة أستاذه، وظل متنقلا بين ألوان الفن، من شعر شعبي وأغنية إلى أوبريت ومسرحية وفيلم ومقال.
وسرعان ما لفتت موهبته الأنظار، حيث غنت المطربة العراقية “مي أكرم” أولى أغنياته، وهي “يا شميسة”، من تلحين خزعل مهدي، وكان يبلغ من العمر 15 عاما فقط. ورغم كونها أغنية أطفال بالأساس، فإنها حظيت بإعجاب الكبار كذلك، ومثّلت نقطة انطلاق لشاعر واعد، إذ تغنى بكلماته بعد ذلك المطرب الكبير “سعدون جابر”، في أغنيات “هلا بيك” و”أمي يا أم الوفا” من ألحان الفنان الكبير “عباس جميل”، مثلما غنى له المطرب “صلاح عبد الغفور” في أغنية “خسرتك حبيبي”.
رفيق الرحلة.. كاظم الساهر
خلال سنوات الخدمة العسكرية في ثمانينيات القرن الماضي، تعرف العراقي إلى الشاب الواعد -آنذاك- كاظم الساهر. كانت تلك سنوات الحرب العراقية-الإيرانية، وكان الساهر ضمن كورال المسرح العسكري، ويخطو أولى خطواته في عالم الغناء والطرب، فيما كان اسم كريم معروفا في الأوساط الفنية، لكن ذلك لم يمنع العراقي من إدراك مدى تميز الساهر وتلمّس خامة الصوت البديعة فيه. وبعدما منعت لجنة إجازة الأغاني في العراق أغنية الساهر الجريئة “لدغة الحيّة”، من كلمات عزيز الرسام، حيث رأت اللجنة في مفرداتها خروجا عن طابع الأغنية العراقية، التقى العراقي بكاظم في مقهى الإذاعة عام 1986، وكان لقاؤهما بداية المسيرة الثنائية المتميزة التي أطربت الملايين في الوطن العربي.
وبتوصية من العراقي، وافق المخرج صلاح كرم أن يغني الساهر مقدمة مسلسل “ناديا” التي كتب كريم كلماتها، وكان صلاح هو مخرج العمل، واشترط أن يسمع الساهر وهو يؤدي المقدمة قبل إبداء الموافقة، حيث كان متحمسا لأحد المطربين، رياض أحمد أو محمود أنور، وهما الأكثر شهرة من الساهر في ذلك الوقت، إلا أن أداء الساهر كان رائعا وانتزع موافقة صلاح. تلا ذلك ترشيح العراقي لكاظم لأداء مقدمة مسلسل “الكنز”. وهكذا بدأت رحلة فنية ثرية ومتنوعة، إذ غنى الساهر ولحّن من كلمات العراقي أكثر من 50 أغنية، منها الأغاني الرومانسية الخفيفة، مثل “ها حبيبي”، والفلسفية العميقة مثل أغنية “كان صديقي”، والوطنية الشجية مثل أغنية “كثر الحديث”، والتي عدّها العراقي القصيدة الأقرب إلى قلبه، والتي غناها الساهر للمرة الأولى في مهرجان بابل الدولي عام 1995.
نجاح الثنائي، العراقي والساهر، لم يخلُ من الانتقادات، ولعل أشهرها ما وجهها المطرب سعدون الجابر إلى كريم، الذي صرّح خلال مقابلة مع الإعلامي زاهي وهبي بأنه يأسف على المستوى الذي وصل إليه العراقي، ولا يصدق أن مَن كتب “أمي يا أم الوفا”، التي لحّنها عميد الغناء العراقي عباس جميل، هو نفسه من يكتب كلمات مثل “نزلت للبحر تتشمس الحلوة”، التي غناها الساهر. وكان رد كريم أن الأغنيتين مختلفتين ولا عيب في كتابة الأغاني الشعبية، إذ إن جزءا كبيرا من الجمهور تطربه مثل تلك الأغاني. وفيما يؤيد البعض رأي الجابر، رأى فريق آخر في انتقاده محاولة للانتقاص من الساهر، الذي تربع على عرش الأغنية العراقية، بعدما كانت الأضواء مُسلّطة على سعدون في وقت ما.
في عيون النقاد
يرى الشاعر خالد مطلك أن عبقرية كريم العراقي تكمن في التوجه نحو اللغة اليومية، وأن العراقي شحن الأغنية البغدادية بطاقةٍ حداثية أثرت عميقا في مسارها، ومعه ولدت أغنية المدينة، أغنية نتاج حسّ مدني أنيق وتلقائي، تمشي إلى جانب زمنها بالضبط، فلا تتأخر عنه ولا تتقدم، لا تنهل من التاريخ ولا تعير الموروث انتباها، بل تستجيب لقوانين المشاعر المتواضعة وغير المفتعلة، وتستمد مفرداتها من أثاث المدينة الحديثة(2).
أما الدكتور جلال أبو زيد، أستاذ الأدب والنقد في جامعة عين شمس المصرية، فيصف نص العراقي بالجواد العربي المنطلق في سلاسة ودون تعثر فوق أرض ممهدة، ويرى أن المعالجة النقدية لأشعار كريم لا بد أن تراعي طبيعة النص وجمالياته دون استعلاء، وأن العراقي يشغل مساحة في إبداعنا العربي تؤهله لأن يكون وريثا شرعيا لأعلام الغزل، الذين يمثلون جانبا مهما من ملامح الوجه الإبداعي العربي(3).
الجزيرة نت