سبعة ملايين سوداني يختارون أوطاناً بديلة نزيف الهجرة.. سيناريو الهروب الجماعي يتواصل
يبدو أن نزيف الهجرة المتواصل لم تنجح حياله كل المحاولات الحكومية، خاصة ذلك المتعلق بالكوادر، وبعد مكابرة لم تجد وزارة الصحة غير دق ناقوس الخطر أخيراً وهي تحذر من هجرة ضباط الصحة إلى المملكة العربية السعودية التي قالت إنها طالت مديري إدارات وقيادات بالوزارة مؤكدة خلو مشروع الخرطوم خالية من الملاريا من الكوادر بما في ذلك مدير المشروع د. حسن مزمل ومدير الطب الوقائي د. حسن بشير بالإضافة إلى مديري إدارات أخرى، إذاً وكما قال الشاعر جمال عبد الرحيم في رائعة عقد الجلاد” عطبرة” فإن الهجرة باتت مثل الساقية التي لا تعرف التوقف، ليستمر نزيف الكوادر وعلى أثر الهجرة التي باتت قريبة الشبه بالهروب الجماعي من السودان، فإن عدد المهاجرين السودانيين ارتفع بحسب تقرير رسمي إلى سبعة ملايين يتوزعون في مختلف دول العالم .
خبر صادم
آخر الأخبار الصادمة التي تؤكد أن الهجرة باتت خياراً مفضلاً حتى لأصحاب المناصب القيادية، فقد كشف رئيس اتحاد ضباط الصحة محمد إدريس استيعاب المملكة العربية السعودية 120 من ضباط الصحة المؤهلين حملة الدكتوراه وماجستير الصحة العامة من ماليزيا، فيما طالبت بـ 500 ضابط صحة، مستنجداص بالسلطات الصحية لوقف نزيف الهجرة، مؤكداً أن الدولة قامت بتأهيل تلك الكوادر ولم تجن ثمارها، وأضاف أن هجرة تلك الكوادر لم تقتصر على الخرطوم فقط بل تجاوزتها لولايات الشرق والجزيرة، محذراً من خطورة الخطوة وتأثيرها على الوضع الصحي بالبلاد، مناشدًا بعدم التفريض في تلك الكوادر، وقال إن الكوادر هاجرت عبر وكالات بتعاقدات لا تقل عن 12 ألف جنيه شهرياً، وأرجع الاتحاد ارتفاع معدلات الهجرة لعدم وجود خطة واضحة لاستبقائهم، واشتكى من وجود تقاطعات مهنية تمثلت في دخول جمعيات وأشخاص في مجال الصحة العامة، فيما نوهت وزارة الموارد البشرية إلى أن هجرة الاختصاصيين والمعلمين هي الأشد أثراً على حركة التنمية في السودان.
أرقام مخيفة
بعد ارتفاع معدلات الهجرة بأرقام مخيفة وفقدان البلاد كفاءات وكوادر تبدو في أمس الحاجة إليها توجهنا صوب جهاز شؤون المغتربين للتعرف عن قرب على الأرقام الحقيقية للمهاجرين السودانيين، ومثلما توقعنا فقد أكد مدير عام الجاليات والهجرة الرشيد عبد اللطيف ارتفاع معدلات الهجرة ، كاشفاً عن مغادرة الكثير من الخبرات للبلاد، موضحًا بأن كثيرًا من الإحصائيات الأخيرة للمهجرين بطرق شرعية كشفت عن أن عددهم يبلغ (5 ملايين). أما المهاجرون بطرق غير قانونية فقد بلغت آخر إحصائية (2 مليون مهاجر)، وأضاف عبد اللطيف بأن جملة الخبرات التي هاجرت حتى الآن تبلغ (4000) وهذه الإحصائية حديثة، شملت الدول العربية، وأضاف: ولكن دول الغرب لا توجد احصائية دقيقة توضح عدد الكفاءات السودانية التي هاجرت إليها.
هجرة العقول
وأشارت بعض التقارير الحكومية الى أن المملكة العربية السعودية تعتبر أكبر مستقبل للعمالة السودانية المهاجرة بنسبة (91%) من جملة المغادرين خلال الخمس سنوات الماضية، تليها دولة الإمارات العربية المتحدة بنسبة (3,5%)، وأوضح التقرير أن هجرة الحرفيين هي الأعلى خلال السنوات الخمس الماضية حيث بلغت (58484) تليها أعمال الرعي والزراعة وتربية الحيوان (54100)، غير أن هجرة الاختصاصيين الطبيين والأساتذة خلال الخمس سنوات الماضية مثلت ـ طبقًا للتقريرـ أكبر هاجس للسلطات الحكومية السودانية بمغادرة (14407) كادر ، فيما بلغت أعداد الفنيين المهاجرين في ذات الفترة (11226) فرداً، ونتيجة لتلك الإحصائيات التي وصفها المراقبون بالمخيفة، فقد عزا بعض المختصين الهجرة إلى التدني الاقتصادي.
أسباب موضوعية
ويرجع محللون سياسيون واقتصاديون أسباب الهجرة إلى الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السودان حالياً من ارتفاع معدلات غلاء المعيشة، وما يعانيه المواطن من ضيق ذات اليد مقابل الغلاء الفاحش، معتبراً أن هذه تعتبر أسباباً رئيسية للهجرة خارج البلاد بكل الوسائل والسبل المشروعة وغير المشروعة لكل بقاع الأرض أياً كانت الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية فيها، مؤكدين أن ما تتحصل عليه بعض الفئات التخصصية مثل العاملين في المهن الطبية والهندسية والتقنية والمالية من رواتب وأجور مجزية تمثل سبباً أساسياً لإغراء هذه الفئات للهجرة مقارنة بما يحصلون عليه في السودان من رواتب ضعيفة، لذلك ترتفع نسبة الهجرة بشكل طردي من جراء الغلاء الفاحش بالبلاد.
مشاكل وأزمات
وأوضح مدير الجاليات السودانية الرشيد عبد اللطيف (للصيحه) بأن أكثر مشاكل المهاجرين السودانيين تتمثل في اتخاذ سبل غير قانونية للهجرة، وأردف: للأسف لا توجد إحصائية دقيقة توضح عدد المهاجرين بالتهريب، وقد استدل في حديثه بأن المهاجر عبر الحدود المصرية إلى إسرائيل يتم القبض عليه ليعود مرة أخرى باسم اخر مما يعوق أمر الحصر بشكل دقيق لأن المهاجر يحمل أكثر من اسم بجوازات مختلفة، مؤكدًا بذل جهاز المغتربين جهداً مقدراً بالتعاون مع أمانة الجاليات السودانية للحد من عملية التهريب عبر الحدود من بينها، وضع آلية للبت في كثير من الحالات بعضها يقبع بالسجون في بلاد المهجر والتي تصل عبر الإعلام أو أشخاص ويتم العلاج فيها بصورة فورية، وقال إن الآلية الوطنية لحماية السودانيين بالخارج تتكون من عدة جهات منها الجهاز القضائي ووزارة العدل وتلك التي تعنى بالشأن الخارجي مثل وزارة الداخلية والخارجية وجهاز المغتربين، موضحاً أن الغرض من هذه الآلية تقديم الإسناد القانوني والدعم للسودانيين بالخارج، وقال: من خلال الآلية سيكون لنا دور حتى في إبرام العقود مع السودانيين في الخارج، كما أضاف بأن جهاز المغتربين قد أنشأ صندوق دعم العودة الطوعية من الدول التي تعاني من الحرب مثل لبييا والعراق، أيضًا أنشئ الصندوق الخيري لدعم الجاليات السودانية والتي تقدر بـ(144) جالية تجد الدعم من وزارة المالية، وأكد أنه تم تفعيل قانون تبادل المحكومين بين السودان والدول الأخرى والغرض منها معالجة كثير من حالات السجناء في قضايا مختلفة تصل إلى الإعدام أو المؤبد، مؤكداً سعيهم من خلال الآلية أن يقضي السجين فترة عقوبته داخل البلاد من خلال الاتفاق بين الدولتين، وأوضح الرشيد بأن هنالك قضايا تختص بالمال العام مثل الاختلاس أو أخذ التمويل، معتبراً أن هذه قضايا دول لا تتدخل فيها الجاليات، وأضاف: ولكن كسودانيين تتم المعالجة في الإطار الأخوي، أما الحديث عن المسجونين بالمملكة العربية السعودية فأكد أن أكثر المخالفات القانونية تتمثل في الإقامة غير القانونية وممارسة الدجل، معتبرًا الكفالة من اكبر المعوقات لأن السعودية من أكبر الدول استقبالاً للسودانيين حتى على مستوى الخبرات يوجد أكثر من 13 ألفاً من مستشار واختصاصي لهذا ربما تكثر بها المخالفات القانونية.
مخدرات وسجون
اما مصر فبها سودانيون في قضايا مخدرات، وكذلك ممارسة الدجل والشعوذة إضافة إلى الهجرة غير الشرعية عبر أراضيها، مؤكداً أن الأرقام ليست بالحجم الكبير، وأردف قائلاً: وصلتنا بعض المعلومات عن وجود سودانيين بسجون أثيوبيا ومن خلال الحديث مع مدير عام الشرطة حول وجود سودانيين بالسجون الأثيوبية أكد عدم وجود أي سودانيين داخل السجون، وأنهم أكثر الشعوب تعاملاً واحترامًا للقانون وليس لهم أي سوابق أو مخالفات قانونية تودي بهم إلى السجون. وكشف أمين الجاليات السودانية أن الإمارات بها بعض المخالفات وعدد المسجونيين فيها (44)، وأرجع انخفاض عدد السودانيين بسجون الإمارات الى أن السلطات بالدولة الخليجية حريصة على دخول الأجانب بشكل قانوني، كاشفاً عن أن عدد السودانيين بالإمارات وبعد توفيق أوضاعهم بلغ (86 ألفاً).
اللجوء والانتظار
ويمضي مدير الجاليات في حديثه عن أوضاع السودانيين بالخارج، مشيرًا الى سعي جهاز المغتربين بالتنسيق مع الجاليات لحل مثل هذه القضايا، وذلك من خلال الآلية الوطنية، وكشف عن وجود 22 استشارياً بالآلية للدفاع عن المغتربين السودانيين في قضايا مختلفة، وأضاف بالقول بأن الآلية عملت على تبرئة أحد السودانيين من تهمة قتل، لافتاً إلى أن أبرز مشاكل الهجرة غير الشرعية تتمثل في الانتظار للحصول على حق اللجوء، وقال إن السودانيين في عدد من الدول الأوربية يواجهون ظروفاً بالغة التعقيد حتى يتمكنوا من اكتساب صفة اللجوء، وإن هذا يلقي بظلاله السالبة على أوضاعهم الإنسانية.
هجرة العقول سمة الدول الفقيرة
أوضح الخبير الاقتصادي محمد كبج لـ(الصيحة) بأن هجرة العقول من السودان هي سمة في كل الدول التي تقع تحت خط الفقر لأنها لا تمنح مستوى معيشة جيداً، لذلك أصبحت هذه الظاهرة تستشري بشكل مزعج، وقال إن الجامعات تخرج أعداداً كثيرة من الطلاب الذين لا يجدون فرص عمل بالبلاد أو أن العائد غير مجزٍ، مشدداً على ضرورة الاحتفاظ بكل الكوادر حتى يسهموا في عملية البناء.
إلا أنه يؤكد بأنه إن لم تكن قادرة على وضع حد أدنى للأجور فيرى أن هذا مدعاة لهروب الكوادر من البلاد، وقال إن الحكومة تبدو غير جادة في زيادة الأجور مستدلاً بتلكؤ وزارة المالية في الإيفاء بمنحة الرئيس رغم أنها مبلغ زهيد، مؤكدًا أن الأجور في السودان لا تكفي الحد الأدنى من المتطلبات وأن هذا جعل المعادلة صعبة أمام الكوادر والكفاءات الذين لا يمكن أن يستمروا في العمل بأجور زهيدة وغيرهم في الدول الخليجية يتقاضون أجوراً عالية، وقال إن رئيس الجمهورية تطرق من قبل الى أهمية رفع أجور مسنوبي القوات المسلحة، وهذا أمر جيد بحسب المحلل الاقتصادي إلا أنه قال كان يجب أيضًا رفع أجر الأستاذ الجامعي، معترفاً بأن الاغتراب بات المخرج الوحيد للأسر السودانية من دائرة الفقر.
ويرى أن الاغتراب سلاح ذو حدين، فهو من شأنه تحسين دخل المهاجر إلا أنه في ذات الوقت يتسبب في الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تنعكس سلباً على البلاد.
خطر حقيقي
في ذات الإطار أكدت الخبيرة الاجتماعية حنان الجاك أن الهجره تشكل منعطفاً خطيراً وتعتبر عاملاً مؤثراً في فقدان البلاد للكفاءات والخبرات التي تحتاجها في النهضة والتطور المنشودين، وبخلاف التأثير الاقتصادي فإن حنان الجاك ترى أن الهجرة من أهم الأسباب التي تقود للتفكك الأسري، وتعتقد أن هجرة الكوادر غير المؤهلة يضعها أيضاً أمام مشاكل نفسية لا حصر لها في دول المهجر، غير أن حنان الجاك تعتبر أن الدافع النفسي والاجتماعي للهجرة يعود بشكل مباشر إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والتي أكدت أنها إذا لم تتحسن بالبلاد فإن نزيف الهجرة لن يتوقف.