عبدالله على إبراهيم يكتب الهجرة الإفريقية.. ملف منسى يُفتح من جديد
تواترت واقعتان فى الأسبوع الماضى شديدتا الصلة بسياسات الأرض ونزاعاتها فى منطقة الساحل الإفريقى، والتى هى أصل الحرب القائمة فى السودان حاليًا. فقد كتبت «فورين بوليسى» تتساءل فى عنوانها إن كانت غانا هى الهدف التالى لحركة الجهاديين. كما تخطفت الصحافة تقرير «واشنطن بوست» فى 20 مايو «دول شمال إفريقيا ترمى بالمهاجرين فى الصحراء بدعم من الاتحاد الأوربى».
أثارت المقالتان قضايا لا غناء عنها متى أردنا تحسين معرفتنا بالهجرة الإفريقية من ساحل القارة بخاصة، إذ رفعتا عن هذه الهجرة الحجاب الذى أسدله عليها التركيز المبالغ فيه على دراسة وجهتها الأوروبية وعواقبها، كأنه لا مسارات لها داخل القارة. وأثارتا كذلك عامل الهوية فى دراسة هذه الهجرة، ونعنى بذلك النزاع على الأرض بين المزارعين والرعاة، والذى تزيد سياسات الدولة حياله من ضراوته.
جاء فى «فورين بوليسى» أن جماعة «النصرة» (وهى وثيقة الصلة بتنظيم «القاعدة») مددت نشاطها أخيرًا إلى الأجزاء الشمالية من بلدان إفريقية مشاطئة للمحيط الأطلنطى مثل غانا، بعد احتلالها نصف بوركينا فاسو وأجزاء من مالى والأرض على طول نهر النيجر بينهما. ومع قناعة غانا بأنها بمنأى عن نشاط «النصرة» فإن الدلائل تشير إلى أن الجهاديين استخدموا شمالها لتسوقهم وكملاذ يؤمنون به ظهرهم.
تطعن واقعة غانا فى المفهوم الغالب الذى يقول إن الأيديولوجيا (الإسلام) هى الدافع من وراء التحاق شباب المسلمين بالحركات الجهادية. فمن رأى البحث المستجد فى المسألة أن هوية هؤلاء الشباب، لا الأيديولوجية، هى الحكم فى اختيارهم سبيل الجهاد. فيقبل على الحركة الجهادية شباب من شعب الفلانى الذين لا تعترف غانا بمواطنتهم مع أنهم يشكلون واحدًا فى المائة من سكانها. ومعلوم أن أصل الفلانى هو غينيا، وبدأوا هجراتهم كبادية إلى غرب إفريقيا منذ القرن الـ11 حتى بلغوا إثيوبيا. وانتهت منهم جماعة قليلة نسبيًا إلى غانا لم تطل إقامتهم بها سوى لجيلين. وهم يلقون التحقير فى غانا كجماعة مجبولة على الجريمة. وهو استحقار يغذى دعوة الجهاديين لهم بالانضمام إلى ركابهم.
ورأت الأكاديمية ميرى إسترادا أن دراسات الهجرة الإفريقية أغفلت اعتبار الهوية فى تشخيص ديناميكيتها وعواقبها. فنشأت بهذه الهجرة نقيضة ديمغرافية بين الساكن الأصيل والوافد من حيث الحقوق. وجرى التهوين من الأجنبى حتى تواثقت الحكومات على أن طرده أولى. فدخل الفلانى فاقد الحقوق لأجنبيته فى صراع خاسر حول الأرض مع المزارعين الغانيين «الأصلاء»، يفاقم منه ازدياد نفرهم، علاوة على الآثار الوخيمة على البيئة بسبب تغير المناخ. ولم تنجح قوانين الجنسية الغانية فى تكييف وضعية الأجنبى حيال الأصلى من السكان.
ثم جاءتهم الحركة الجهادية من باب تمردهم على جور فقدان الهوية، لا من باب الأيديولوجيا. وكانت غانا مثلًا أبعدت 250 طالب لجوء فلانى إلى بلدهم (بوركينا فاسو) فى يوليو الماضى بتهمة تهديد أمن البلاد. فنشرت جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» بيانًا دعت فيه للاحتجاج على الإرجاع القسرى لأولئك اللاجئين، ودعت لتضريج غانا بالدم كما ضرجت الفلانى. وطالما كانت الهوية هى سبب التحاق شباب الفلانى بالحركات الجهادية، صح لغانا، فى قول الخبراء، أن تتوقف عن اضطهاد الفلانى ضمن إجراءات كثيرة عليها اتباعها لتعزيز موقفها من دون أن تصبح ساحة للجهاديين. فبوسع غانا، فى قول الباحث النرويجى تور بنجامنسن، أن تتعلم من خيبة جاراتها فى وجه الجهاديين بألا تجعل المواجهة نوعًا من مكافحة الإرهاب الذى تغلب عليه العسكرة بقيادة الغرب كما كانت عليه الحال فى الساحل.
أثار تقرير «واشنطن بوست» مسألة بؤس دراسات الهجرة الإفريقية من زاوية تركيزها على وجهتها الأوروبية وذيولها من دون وجهاتها الإفريقية. فعرض لدافع الاتحاد الأوروبى لتمويل دول شمال إفريقيا لإلقاء المهاجرين الأفارقة فى الصحراء، وهو الأمر المنافى لحقوق الإنسان. لكنها خطة، فى قوله، أملتها سياسات أوروبية داخلية أرادت بها قوى الوسط ويمين الوسط الأوروبى وقف زحف الدوائر اليمينية إلى سدة الحكم فى دول الاتحاد، من فوق موجة العداء العام للهجرة الإفريقية إلى أوروبا، والتى تعالت فى العقد الأخير وصخبت.
وهذا الإجحاف الأوروبى بطالبى الهجرة الإفريقيين هو ما أراد به الوسط ويمين الوسط ألا يبدو أقل صرامة بوجه هذه الهجرة من دون اليمينيين. وعلق أحدهم على أن الاتحاد الأوروبى بذاك اقترب قليلًا قليلًا من فانتازيا اليمين المتطرف، الذى يريد أوروبا قلعة لا تُخترق أسوارها. ولم يعد الاتحاد الأوروبى، وهو يقف وراء هذه الانتهاكات بحق طالبى اللجوء، يتذكر مذهبه فى الحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان، بعد أن أوكل لحكومات غيره أن تكون ديدبانًا شديد النكال بالمهاجرين عند بوابته.
وخبر «واشنطن بوست» مع ذلك لا يخرج عن النظرة التقليدية للهجرة الإفريقية وكأنها لوجهة واحدة هى أوروبا. وهى النظرة التى خرج بنجامنسن لنقضها. فالهجرة الإفريقية داخل إفريقيا، التى كان السودان ميدانًا لها عبر بوابة دارفور، أغزر بكثير من تلك التى مقصدها أوروبا. فلاتزال هجرة 80 فى المائة من الأفارقة إلى أكناف إفريقيا، حتى مع ازدياد وتائر الهجرة من إفريقيا إلى أوروبا منذ 2015. ولهذا التحيز بقيت دراسة الهجرات الداخلية فى القارة بلا أسبقية لها فى البحث. ولايزال الفهم يقضى بأن الهجرة الإفريقية استثنائية وغير تاريخية.
وجد بنجامنسن فى تبرم أوروبا من الهجرة الإفريقية لؤمًا منها. واتجه لوضع الهجرة الإفريقية
لا أعرف إن كان لابد لنا فى السودان من خوض حرب لنعرف أننا لم نكن بحاجة لنكون ضحايا ظاهرة هجرة الساحل والصحراء لو أمسكنا بأزمتها بدلًا من الاستثمار فيها أو الاحتجاج عليها. لكننى أعرف مثلًا يسخر ممن يحمل مسألة بلا علم بها، وهو مثل ذائع من دارفور، مسرح حربنا الأول، يقول: «شايل جبل مرة بلا وقاية»، أى يحمل ثقلًا فى حجم جبل مرة (الجبل المهيب الذى يتوسط الإقليم) بغير وقاية (وهى لفافة القماش التى يضعها المرء على رأسه لتكون وقاية له من الملامسة المباشرة لجرة ماء أو حزمة الحطب التى عليه).
عبدالله علي ابراهيم
جريدة اندبندنت البريطانية