اليهود في السودان.. تفاصيل غائبة

أعدت إدارة الأملاك بوزارة الخارجية الإسرائيلية مشروع قانون طرحته على الكنيست الإسرائيلي، تطالب فيه كل من السودان ومصر وموريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا وسوريا والعراق ولبنان والأردن والبحرين بتعويض يقدر ب(300)مليار دولار امريكي، عبارة عن قيمة ممتلكات(850) ألف يهودي كانوا يعيشون في تلك البلدان!، فيما أطلقت الخارجية الإسرائيلية حملة دبلوماسية تؤكد أن أي حل لقضية اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يوازي تعويض اللاجئين اليهود من الدول العربية! هذه المطالب جعلتنا في (آخر لحظة) نغوص في أعماق هذا الملف، ملف اليهود وممتلكاتهم في السودان أين كانوا؟ ومن أين أتوا؟… وماذا كانوا يفعلون؟ وماهي حقيقة ممتلكاتهم، والنشاط الذي كانوا يمارسونه منذ أواخر القرن التاسع عشر الى الخروج الكبير نهاية ستينيات القرن المنصرم ؟.. ويبقى السؤال الأهم: هل ما يزال هناك يهود في السودان ؟ بأي كيفية؟ وتحت أي لافتة يعملون؟ وماهو مصير ممتلكاتهم التي قد يطالبون بها ؟…إلى التفاصيل…
عرض/ أيمن المدو
اليهودي الأول:
تعتبر عائلة ( بن كوستي) من أولى العائلات اليهودية التي وصلت البلاد، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وشهدت السنوات التي أعقبت قيام الحكم الثنائي أكبر موجات هجرة يهودية الى السودان،. وعائلة (بن كوستي) من اوائل العائلات التي استوطنت في ـم درمان، وهو يهودي عثماني (1842- 1917 ولد بفلسطين المحتلة، ويعود أصل والده الحاخام الى أسبانيا، وكان يريد لابنه أن يكون حاخاماً مثله، لكن( بن كوستي) فضل الانخراط في سلك الوظائف الحكومية لدي الامبراطورية العثمانية، قبل وصوله هو وزوجته الى السودان والعمل في شركة تجارية، وعاش مابين مناطق الخرطوم والمسلمية يتاجر في سن الفيل وريش النعام.
لكن(بن كوستي) تم سجنه أثناء حصار الخرطوم أيام المهدية بتهمة مساعدة (غردون)، وسرعان ما أفرج عنه( الخليفة عبد الله) وأجبره على البقاء في أم درمان، وأصبح (بن كوستي) مصدر ثقة الخليفة الذي أوكل إليه بعض المهام من بينها استيراد البضائع المصرية، ولا سيما الأقمشة عن طريق سواكن بعد الاحتلال المصري – الانجليزي في 1889 أصبح( بن كوستي) أول رئيس للجالية اليهودية، وقام ببناء المعبد اليهودي الأول بحي المسالمة أم درمان – حسب ما أشار اليه داوود بسيوني المؤرخ اليهودي. وحمل بن كوستي اسم (عبد القادر البستيني)-وهو الاسم الذي كان يطلقه عليه (الخليفة عبد الله)، وتحول اسمه للمرة الثالثة الى (بسيوني)، وتزوج من امرأة سودانية تدعى (بنت المنا) وأنجبت منه (عبدالقادر) الذي تزوج بدوره من مدينة أم درمان مخلفاً ثلاثة أبناء انخرط أحدهم في القوات المسلحة السودانية .
بينما عمل الابن الثاني (سليمان بسيوني) طبيباً بوزارة الصحة السودانية حتى وصل الى درجة (حكيمباشي) مستشفى الخرطوم، ونال (سليمان) تعليمه بكلية غردون التذكارية التي أصبحت فيما بعد جامعة الخرطوم، وتزوج فتاة من الاقليم الجنوبي، منجباً منها (ديفيد) الذي شغل منصباً قيادياً في القطاع الزراعي بالاقليم الجنوبي.. أما( بسيوني) نفسه فقد هاجر الى مدينة (أسمرة ) الارترية، ومنها الى دولة اسرائيل ويمتلك(بسيوني) الجنسية السودانية بالميلاد، وتحمل الرقم 13191 بتاريخ 1956، أما الابن الثالث فقد مكث بالسودان مع أسرته وعمل محاسباً بشركة (قنجاري) الكائنة بشارع الجمهورية، وكان آخر سكرتير للجالية اليهودية، بينما درس أبناؤه بجامعات انجلترا، وتم بيع المعبد الذي بناه( بسيوني) في حي المسالمة، وأقيم معبد آخر هو المعبد الأخير لليهود الذي كان يقع بشارع القصر بالخرطوم مقابل مدارس( كمبوني)، ويحمل هذا المعبد لافتة وشعار الجالية اليهودية في السودان، ورغم صِغر حجم هذه الجالية ومحدودية نشاطها، لكنها أقامت المعبد وأدارت نشاطات كبيرة اجتماعية وتجارية واسعة في الخرطوم، وظلت هذه الجالية على الدوام على صلة وثيقة بالحركة الصهيونية العالمية.
الجالية اليهودية في السودان:
كان عدد أفراد الجالية اليهودية في السودان يبلغ مابين الثمانمائة والألف موزعين ما بين الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان، وود مدني، وبورتسودان، ومروي، التي أقام فيها (شاؤول الياهو) وزوجته، بينما بقي أولاده بالخرطوم والخرطوم بحري، ويقال إن (بنيامين نتنياهو) رئيس الوزراء الاسرائيلي ينتمي الى هذه العائلة!.
ويعود أصل 90 % من أفراد هذه الجالية الى اليهود (السفارديم) الذين ينحدرون من سلالات اليهود الذين طردوا من أسبانيا عام(1492) عقب سقوط (غرناطة عاصمة الأندلس اتجهوا بعدها نحو المغرب وتونس والجزائر، ثم الى مصروالسودان، بينما هاجر بعضهم الى كل من فرنسا وايطاليا واليونان وتركيا، أما اليهود (الاشكنازي) ذوو الأصول الأوروبية فلم يجدوا مفراً سوى الاندماج في الأغلبية من اليهود (السفارديم)، والتطبع بعاداتهم وأساليب عباداتهم،وحدثت زيجات كثيرة بين الجانبين في كل من القاهرة والخرطوم.
يهود بأسماء العرب!
بالرغم من أن معظم اليهود الذين جاءوا الى السودان من عائلات يهودية معروفة عاشت في مصر سنوات طويلة، لكنهم لم يكونوا يحملون أسماء تشير أو تدل على أصولهم اليهودية!، كان هناك من يحمل اسم المغربي، والتونسي، والبغدادي، والأسبانيولي، وهي البلدان التي عاشوا فيها أو انحدروا منها، أما الذين عرفوا باسم الاسبانيولي فهم هؤلاء الذين انحدروا من(سالونيكا)، وجزيرة(رودس)،( وكورفو) اليونانية ومن (ازمير) و(اسطنبول) في تركيا، وكان بعضهم مايزال يتحدث الاسبانية ويحتفظون بتلك اللغة رغم مرور حوالي اربعة قرون على خروجهم من اسبانيا، أما اليهود الاوروبيون فهم هؤلاء الذين وفدوا من ايطاليا وفرنسا فيتكلمون الفرنسية، لكن غالبيتهم قدموا من مصر ويتحدثون باللهجة العامية المصرية، ويمارسون عادات وتقاليد مجتمعهم الذي ولدوا وعاشوا فيه، ماعدا الشريحة العليا التي عاشت حياة اوروبية. ويتحدث الجميع باللغة العربية لغة الأهالي في كل من مصر والسودان ويكتبونها، ومعظم يهود السودان كانوا يتحدثون اللغة الانجليزية بطلاقة، حيث كانت هي اللغة الثانية لدى الإدارة، ولغة التعليم العالي والتجارة الدولية في السودان، بينما يتحدث بعضهم اللغة الفرنسية –لغة النخبة- التي كانت تدرس في المدارس الخاصة في مصر وشمال أفريقيا.
نادي( مكابي) الرياضي
بدأ النادي اليهودي للترفيه كنادٍ رياضي للشباب اليهود- الذين هم في العقد الثاني واوائل العقد الثالث- فشكلوا فريقاً لكرة القدم متأثراً باسم( مكابي)، الذي تعود جذوره الى فريق لكرة السلة يحمل ذات الاسم بالقاهرة في ذلك الوقت، لذلك رأت الجالية اليهودية في السودان اطلاق اسم (مكابي) على فريق كرة القدم وعلى النادي اليهودي بالخرطوم، وشارك الفريق في دورة روابط كرة القدم بالخرطوم، التي كانت تضم كثيراً من فرق الهواة الجيدة، من بينها فرق الجاليات اليونانية والسورية والبريطانية- (فريق النادي البريطاني)- ويطلق أعضاء الفريق البريطاني على لاعبي فريق مكابي اسم فريق العرب! لأنه كان يضم كل من:
(سليمان بيومي).. و(ديفيد بسيوني) و(الياهو ملكا).ـ و(شالوم سيروسي) و(لوموريس ماركوفيتش)، بينما كان الجناح الأيمن لهذا الفريق هو( مائيير) واسمه الحقيقي(ماهر)، وكان شاباً مسلماً صديقاً لليهود انضم لفربق مكابي في ذلك الوقت.. وفي عام 1928م استأجر اليهود قطعة واسعة من الأرض للنادي في شارع فيكتوريا (شارع القصر حالياً)، وشيدوا ملعباً للتنس وبعض الغرف، حيث أصبح النادي هو المكان المفضل للشباب اليهودي و ولعائلاتهم.
حكاية أول رئيس للنادي:
في البداية لم يكن اليهود من كبار السن راضين عن اظهار الشباب ليهوديتهم من خلال النادي ونجاحهم في مباريات كرة القدم للروابط، لذا عمد الشباب لاقناع (ديفيد هونستين)، المدير الشاب لخط البريد الخديوي بالخرطوم ليكون مديراً للنادي، وكان وقتذاك لم يتجاوز الثلاثين إلا بقليل، وفي اواخر الثلاثينات قامت شركة (ليكوس اخوان) بشراء قطعة الأرض التي كان يقوم عليها النادي لانشاء سينما- (ويبدو انها كلوزيوم)- وقامت الجالية اليهودية بشراء موقع آخر خلف الكنيس اليهودي للنادي بداية الأربعينيات من القرن الماضي، وشيدوا بداخله مسرحاً مفتوحاً للحفلات، وغرف للاجتماعات وكافتيريا للمأكولات الخفيفة والمشروبات، وتم استئجار الأراضي المجاورة لإقامة ميادين لممارسة مختلف ضروب الرياضة.
حفلات جمع التبرعات:
أصبح النادي مكاناً مفضلاً للقاء العائلات اليهودية، حيث كانوا يقضون معظم أوقاتهم المسائية به فتجد البعض منهمكين في لعب الورق، والبعض الآخر يستمتعون بكرة الطاولة و(النرد)، وآخرون يقيمون باحتساء المشروبات الروحية والخفيفة، والبعض الآخر يتبادلون أحاديث المدينة ويعقدون الصفقات، بينما كانت تقام الحفلات في مسرح النادي في الأمسيات لتجنب حرارة الجو أثناء ساعات النهار، وكان حفل الجالية السنوي يقام في نادي (مكابي)، الى جانب حفلات جمع التبرعات التي كان يؤمها العديد من الشخصيات والجاليات الأجنبية الأخرى بالخرطوم.
وتعاقب على رئاسة هذا النادي عدد من جيل الشباب الذين ولدوا بالخرطوم، المنحدرين من قدامى المستوطنين، وكان أول رئيس للنادي هو( شالوم سيروسي،) أكبر أفراد عائلة (سيروسي) ثم أعقبه (البرت قاوون،) كبير عائلة (قاوون)، والشريك في الشركة التي تسمى شركة (البرت ونسيم قاوون)، وجاء من بعده (موريس سيروسي) والشريك أيضاً في شركة (سيروسي اخوان،) ثم انتقلت الرئاسة الى( ديفد ملكا)، الذي كان يعمل مديراً لشركة مواد البناء بالخرطوم، ثم اعقبهما(ليون تمام)، كبير عائلة تمام، ولكن قبل أن يصبح (ملكاً) رئيساً للنادي فقد كان يعمل سكرتيراً شرفياً له لمدة ثماني سنوات، ويعتبر(ديفيد ملكا) آخر رئيس للجالية اليهودية في السودان.
المصدر: اخر لحظة



