“صراعات الكولا”.. حلبات السباق بين ملوك المشروب الفخم

يباع اليوم أكثر من 10,000 عبوة مشروب غازيّ في كل ثانية، في مبيعات تبلغ قيمتها 2 مليار دولار يوميا. وحتى سبعينيات القرن الماضي، كانت هناك علامة تجارية واحدة فقط، يرادف اسمُها المشروب الغازي، إنها كوكا كولا، المشروب الفخم الذي “تحتسيه الآلهة”. لكن مع مطلع الثمانينيات تغير كل شيء، وزاحم الكولا على عرشها ملكٌ آخر، إنه البيبسي.

هذه حكاية من سلسلة حلقات “أطعمة غيّرت العالم” التي بثتها قناة الجزيرة الوثائقية، وسلطت الضوء فيها على حربٍ ضروس، اشتعلت قبل أكثر من 130 عاما بين عملاقَيْ صناعة مشروب الكولا في أمريكا والعالم؛ بيبسي وكوكا كولا، وما تزال نيرانها تزداد أوارا، وكانت لها -سلبا وإيجابا- آثارٌ جوهرية وحيوية على الاقتصاد العالمي وصحة البشر.

كوكا كولا.. ملاذ الهاربين من التوتر أثناء حرب فيتنام

كانت حرب فيتنام على أشدها في بداية سبعينيات القرن الماضي، وكانت الحرب الباردة قد دخلت عقدها الثالث، والاقتصاد الأمريكي يتهاوى، مع معدلات تضخم وبطالة غير مسبوقة. ووحدها كوكا كولا كانت تغرد خارج السرب، فكانت ملاذ الناس الذين يحاولون الهروب من أجواء التوتر، إذ لم تتأثر بفعل الركود الذي طال قطاعات اقتصادية عدة.

فمنذ 1886 تحولت كوكا كولا من شراب مَحلّي إلى قوة عالمية خارقة، وفي سبعينيات القرن الماضي تغلغلت في نسيج الحياة اليومية، وبعد خمسين عاما من النجاح المتواصل كان هنالك منتج صغير يستحوذ على 6% فقط من سوق الكولا، إنه مشروب بيبسي الذي أنتج للمرة الأولى عام 1898، إلا أنه آنذاك كان يوصف بـ”المنتج الفاشل”.

انطلقت شركة كوكاكولا منذ 1886 فتحولت من شركة تقدم شرابا محليا إلى قوة عالمية خارقة

حاول “تشارلز غوث” رئيس بيبسي أن يدفع بالمبيعات بعد شراء المصنع، ولكنها ما لبثت أن انهارت ثانية بعد تقنين استخدام السكر في الحرب العالمية الثانية، وحصول كوكا كولا على عقد حصري من الحكومة، وبحلول السبعينيات كانت مبيعات كوكا كولا تتفوق على بيبسي بثلاثة أضعاف في البقالات وماكينات البيع.

اختبار التذوق الأعمى.. بيبسي تثبت قدمها وكوكا كولا تتخبط

كان “دون كيندل” رئيس بيبسي الجديد يبحث عن وسائل وحلول للتفوق على كوكا كولا في سوق المبيعات، وقد حقّق مستويات غير مسبوقة في مبيعات بيبسي منذ توليه المنصب، وكان يتساءل ما إذا كانت نجاحات كوكا كولا عائدة إلى الإنفاق الزائد أم المذاق المتميز، ولذا أطلق حملة سريّة أنفق فيها أموالا طائلة لإجراء اختبار “التذوق الأعمى” بين بيبسي وكوكا كولا.

وكانت المفاجأة المذهلة، فقد قاد الاختبار الأعمى إلى نتيجة مفادها أن الناس يفضلون مذاق بيبسي على كوكا كولا بنسبة 52%، وقد استغل “كيندل” هذا التفوق الهش بذكاء، وشنّ هجوما جريئا على كوكا كولا من خلال حملة دعائية مركزة اسمها “تحدي البيبسي”. وقد لاقت هذه الحملة نجاحا باهرا ورفعت مكانة بيبسي للمرة الأولى إلى مستويات مرموقة في الذهنية الوطنية.

وللمرة الأولى تعترف كوكا كولا بوجود منافس حقيقي لها على الساحة، ليضطر رئيسها “روبرت وودروف” -وهو الذي جعل من كوكا كولا أيقونة عالمية- للبحث عن سبيل للرد على هذه المنافسة “غير اللائقة” حسب وصفه، فجمع مدراءه التنفيذيين، وتعهدوا بالرد القاسي على هذه الحيلة “الرخيصة” التي لجأت لها بيبسي.

“تحدي التذوق” خدعة قامت بها شركة بيبسي لتثبت للجمهور الأمريكي أنها منافسة حقيقية لكوكاكولا

غير أن “روبرتو غويزويتا” -وهو مهاجر من أصل كوبي ترقى حديثا لمنصب نائب الرئيس للبحث والتطوير- كان له رأي آخر: ماذا لو كانت بيبسي على حق في اختبار التذوق؟ غير أن حالة الإنكار التي كان يعيشها الرئيس ونوابه جعلتهم لا يستمعون لرأي “غويزويتا”، فرفضوا الاعتراف بفكرة أن ثمة منتجا يمكنه أن يهز عرش كوكا كولا في أمريكا والعالم.

مطاعم الوجبات السريعة.. مضمار آخر للسباق الغازي

مع انتهاء حرب فيتنام استيقظت أمريكا بعد الثمالة على ركود عميق، وكانت البطالة وتدني الرواتب تضطر الأمريكيين إلى العمل في وظائف متعددة، لتدر عليهم دخلا إضافيا، ولذا كان اللجوء إلى الوجبات السريعة الرخيصة مخرجا من تضييع وقت طويل في الطبخ المنزلي.

كانت ماكدونالدز تمتلك 6000 فرع في أنحاء أمريكا، وكانت كوكا كولا المشروب الحصري في فروع ماكدونالدز، لكن بيبسي لم تكتف بتسويق مشروبها في المطاعم الأخرى مثل بيتزاهت ودجاج كنتاكي، بل عمدت إلى خطوة حاذقة أخرى تمثلت في شراء سلاسل مطاعم بأكملها، حيث أصبحت بيبسي تباع في أكثر من 5000 فرع، وارتفعت أرباحها إلى 3 مليارات دولار سنويا.

كوكاكولا المشروب الحصري في فروع ماكدونالدز الـ6000 في أمريكا

وعلى بعد 900 ميل، كان “غويزويتا” يفكر في طريقة للرد على بيبسي، وبسبب خلفيته الكيميائية فقد درس المكونات الأولية لهذا المشروب بهدف تقليص التكاليف، ودرس البدائل المختلفة لخفض السعر والحفاظ على المذاق، ولأن سكر القصب باهظ الثمن هو مكون أساسي للمشروب، فقد درس “غويزويتا” استبداله بشراب الذرة عالي الفركتوز، بربع تكلفة سكر القصب ومذاقٍ أحلى.

بعد الحصول على موافقة الرئيس “وودروف”، وفي مطلع 1980 كان العالم على موعد مع ثورة في مجال المحليات الصناعية، وأدخل محلّى الذرة عالي الفركتوز لأول مرة في كوكا كولا، ثم سارت على خطاها شركات عالمية أخرى مثل هاينز وكيلوغز، وبفضل هذا التغيير قفزت أرباح الشركة بمقدار 150 مليون دولار سنويا.

مشروبات السمنة الأمريكية.. صراعات تعزف على وتر الصحة

في 1981 أصبح المهاجر الكوبي غويزويتا رئيسا تنفيذيا لكوكا كولا، وأصبح جلّ همه تركيع بيبسي. ففي فترة كانت المشروبات الغازية جميعها تعاني واقعا حرجا بسبب ارتباطها الوثيق بالسمنة وأمراض البدانة، كانت كوكا كولا تتفوق على بيبسي في الإنفاق الدعائي بواقع 150 مليون دولار سنويا، وهنا ظهر اسم جديد لدى بيبسي، إنه “روجر إنريكو” ساحر التسويق المغمور.

في لحظة معينة، استطاعت بيبسي التفوق على كوكاكولا بعد إصدارها لمنتجها الخالي من السكر

كانت فكرة “إنريكو” هي هزيمة كوكا كولا بخفض مستوى الكافيين في المشروب الغازي، فهذا المركب المرافق للمحليات مسبب رئيسي لأمراض خطيرة مثل قرحة المعدة وسرطان المثانة، لذا أقدم “إنريكو” على نزع جوز الكولا الغني بالكافيين، وأطلق منتجه الجديد “بيبسي فري”، الأمر الذي زاد مبيعات بيبسي بواقع ملياري علبة في 1982، وحقق أرباحا قيمتها 500 مليون دولار.

وفي أتلانتا كان “غويزويتا” يلعب على نفس وتر الصحة الحساس لدى الأمريكيين، فأطلق مشروبه الخالي من السكر “دايت كوك”، ولتسويق منتجه الجديد استغل تلفزيون الكيبل وأغرق البلاد بسيل من الإعلانات التجارية.. لقد سحق هذا المنتج منافسَه “بيبسي فري” حرفيا، وأصبح أفضل مشروب للحمية على الإطلاق في أمريكا.

“مايكل جاكسون”.. علبة غازية بيد أشهر نجوم أمريكا

في أروقة بيبسي عُيّن “إنريكو” رئيسا تنفيذيا، وأصبح في واجهة التحدي مع منافسه اللدود “غويزويتا”، لكن التوقيت كان صعبا نسبيا بالنسبة لـ”إنريكو”، فما زالت مبيعات كوكا كولا تتصدر الأسواق تليها دايت كوك ثم تأتي بيبسي في المرتبة الثالثة، وكان لا بد من اجتراح وسائل تسويقية مبتكرة، وهذه المرة كانت شريحة المراهقين والشباب هي المستهدفة.

تفتقت ذهنية “إنريكو” المجنونة بالتسويق عن فكرة أذهلت رئيس بيبسي ومدراءه التنفيذيين، ولكن إزاء تصميم الساحر “إنريكو” وإيمانه العميق بفكرته لم يكن بوسع فريق بيبسي الرفض، وكان “مايكل جاكسون” أسطورة البوب، وأعظم وجه في أمريكا على الإطلاق في ذلك الوقت، هو راعي إعلانات بيبسي، بخمسة ملايين دولار مقابل إعلانين تجاريين وجولة تسويقية.

مقابل 5 ملايين دولار، استطاعت بيبسي أن تكسب شهرة مايكل جاكسون في الدعاية لها

لم تكن الفكرة إعلانا لحظيا فقط، بل هي كسب زبون مدى الحياة، فعندما يرى المراهق ابن الـ16 عاما علبة البيبسي بيد نجمه المفضل “جاكسون”، فإنه سوف يُبقيها بيده حتى آخر رمق في حياته، إنها عبقرية حدّ الجنون، والغريب أن “جاكسون” تعرض لحادث احتراق شعره أثناء تصوير الإعلان، وهو ما زاد في شعبيته وشعبية بيبسي معه.

وفي 1984 وحدها بلغت أرباح بيبسي 7.7 مليارات دولار، ولأول مرة منذ قرنٍ تقريبا تتجاوز ضرَّتها اللدودة كوكا كولا. ولأن المصائب لا تأتي فرادى فقد قررت سلسلة مطاعم برغر كينغ التخلي عن تقديم كوكا كولا في وجباتها، وهو الأمر الذي وضع “غويزويتا” في موقف حرج قد يُخرِجُ من أعماقه ذلك الوحش الذي سيفترس بيبسي مرة أخرى.

“أريد تغيير النكهة”.. نكسة أفسدت النكهة المقدسة وأغضبت الزبون

كانت فكرة “غويزويتا” هذه المرة أن يغير النكهة المقدسة التي رافقت كوكا كولا لأكثر من 100 عام، وأصدر تعليماته الحاسمة لفريقه: “أريد تغيير النكهة كليا بحيث نفوز على بيبسي في اختبار المذاق كل مرة، أكرر؛ كل مرة”. أُطلِق على العملية اسم “كينساس”، وكانت سرّية للغاية، أشبه بعمليات “سي آي إيه” أو “كي جي بي” أثناء الحرب الباردة.

بطعم مختلف، أصدرت كوكاكولا منتجها الجديد “كوك” فرفضه الناس وكتبت عنه مجلة التايم

ففي ربيع 1985 أوقف “غويزويتا” خطوط إنتاج كوكا كولا التقليدية، وأصدر منتجه الجديد “نيو كوك”، بمذاق يشبه مذاق بيبسي إلى حد كبير، وبمزيد من نكهة الليمون، ولكن الأمريكيين لم يعجبهم الطعم الجديد، وعبّروا عن رفضهم واستنكارهم للمساس بمذاق الكولا التقليدي المقدس، وكتبوا بذلك صراحة للشركة.

أما بيبسي فقد عدَّت ذلك الحدث نصرا كاسحا على غريمتها التقليدية كوكا كولا، وأعلن “إنريكو” ذلك اليوم إجازة لجميع العاملين في بيبسي ليتسنى لهم الاحتفال بها النصر العظيم.

وفي كوكا كولا أدرك “غويزويتا” حجم الخطأ الذي ارتكبه وبادر إلى الاعتراف ضمنيا به، فأعاد إصدار المنتج الأصلي باسم “كوكا كولا كلاسيك”، وعادت مبيعاته لتتصدر الأسواق من جديد.

حرب المئة عام.. انتصار أربح الطرفين وأمتع المستهلكين

أسفرت حرب المئة عام بيت الشركتين عن انتصارهما معا، واستمرت المنافسة الشرسة بينهما ولكن باحترام متبادل، وكما يقولون فاللاعب الجيد هو الذي يحترم خصمه، وكان الرابح الحقيقي من هذه الحرب الشرسة هو المستهلك، فقد حظي بمذاق فريد وصحي أحسن من أي وقت مضى.

ما زال الصراع بين الشركتين العملاقتين محتدما، ومع ذلك فهما تكسبان مليارات الدولارات من مبيعاتهما سنويا

وتبلغ أرباح كوكا كولا اليوم 32 مليار دولار سنويا، بينما تحقق بيبسي والعلامات العاملة معها 64 مليار دولار، والمستهلك ينتمي لأحدهما دائما، كانتمائه للجمهوريين أو الديمقراطيين، وما زال سوق المشروبات الغازية يحقق نموا بمعدل 6.5% سنويا.

وإذا كانت كلمة كوكا كولا هي الأكثر تداولا على مدى قرنٍ من الزمان، فمن يدري ماذا ستكون الكلمة التالية.

الجزيرة الوثائقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.