تنقيب عن الذهب وزراعة في مواقع أثرية.. الباحثون عن الثراء وجه متجدد للاعتداء على آثار السودان
سودافاكس _ راعي أغنام يعثر على كمية من الذهب في منطقة جبل موية غربي مدينة سنار”، خبر غزا مواقع التواصل الاجتماعي في السودان الأيام الفائتة، لكن الغزو الأخطر كان غزو الباحثين عن المعدن الأصفر مواقع الاستكشافات الأثرية في المنطقة.
جبل موية
غربي مدينة سنار (296 كلم جنوب الخرطوم)، تقع قرية جبل موية في الجزء الجنوبي من سهل الجزيرة، الذي يحده النيل الأبيض غربا، والنيل الأزرق شرقا.
شهدت القرية أولى المسوحات الأثرية عام 1911، وذلك خلال بعثة السير هنري ويلكم (Henry Welcome)، ولنحو 4 مواسم متتالية انتهت البعثة عام 1914، والقرية بها أكثر من موقع للكشف الأثري عملت فيه خلال هذه السنوات بعثة مشتركة من الهيئة العامة للآثار والمتاحف، وقسم الآثار بجامعة الخرطوم، ومعهد الآثار بكلية لندن الجامعية.
ورغم أن بعثة السير هنري ويلكم تتخذ التنقيب الأثري عنوانا، فإنه بعد أكثر من قرن على عملها لا يزال الغموض يكتنف أعمال السير ويلكم صاحب القصر الصخري، أحد أساطين صناعة الدواء وأحد أكبر المتبرعين لحكومة السودان إبان الفترة الاستعمارية، بداية من تبرعه السخي لإنشاء كلية غردون.
اعتداء سافر
مع سريان الخبر عن عثور راعي غنم على ذهب في منطقة جبل موية، بدأت حمى الذهب تجتاح البعض، فراحوا ينقبون في الأودية المنحدرة من الجبل ينشدون الثراء؛ وساقهم هذا الأمل إلى الاعتداء على مواقع للكشف الأثري في المنطقة من بينها القصر الصخري أو ما يعرف بـ”سرايا ويلكم”.
الجزيرة نت استجلت الأمر بسؤال حارس الموقع (عباس) عما جرى، فأجاب أن بعض المنقبين عن المعادن بعد سماع خبر الراعي راحوا يبحثون في أماكن مختلفة حول الجبل، وبعضهم دخل لمواقع الكشف الأثري.
ويضيف عباس “لم يأبه أحد للتحذيرات أو المنع، وراحوا ينبشون ويحفرون في الوادي، وامتدت الأيدي إلى سرايا ويلكم، وبدا واضحا أن حارسا أعزل لا يستطيع كبح شهوة الذهب وردع المنقبين”. وقال إنه ذهب لمدينة سنار، وأبلغ المسؤولين في الهيئة القومية للآثار بهذا “الاعتداء”.
الدكتور أحمد حسين، الرئيس الأسبق لقسم الآثار في جامعة الخرطوم، وممثل القسم في مشروع المسح الأثري المشترك بجبل موية، تحدث عن الموقع وبدايات التنقيب الأثري فيه، وقال إن التنقيب بدأ في الموقع على يد هنري ويلكم، وإن حصيلة الاكتشافات الأثرية التي أجريت خلال تلك السنوات (1911-1914) أثبتت أهمية الموقع من الناحية التاريخية والثقافية؛ حيث قدم أكثر من 3100 هيكل بشري من مجمل نحو 2791 مقبرة تم تنقيبها آنذاك، مما جعل هذا الموقع أكبر مقبرة يتم تنقيبها في شمال شرق أفريقيا.
ويضيف الدكتور أحمد أن التنقيب توقف لظروف الحرب العالمية الأولى، ولم يستأنف منذ ذلك الحين إلا في السنوات القليلة الماضية.
بعد قرن من الزمان
عادت البعثات الكشفية مرة أخرى لجبل موية عام 2017، ولم تكن بغموض بعثة ويلكم الذي بنى لنفسه قصرا صخريا من طابقين وطابق سفلي (بدروم)، وجلب معه عمالا من أوربا ومصر ومئات العمال المحليين.
الدكتور أحمد حسين تحدث عن أهداف المشروع، قائلا إنها تتركز في إعادة القراءة الأثرية للموقع بشكل علمي متكامل يراعي الجوانب البيئية وتغيراتها من خلال جمع العينات النباتية القديمة، والبقايا الحيوانية، والهياكل البشرية، إلى جانب المخلفات الأثرية المختلفة من أجل تحليلها والحصول على رؤية أشمل عن تاريخ وطبيعة هذا الموقع الفريد والغني من الناحية الثقافية والتاريخية والجغرافية.
أما عن النتائج الأولية للكشوفات، فقال الدكتور أحمد “بشكل عام تشير الدلائل الأثرية إلى تسلسل زمني يبدأ من فترة العصر الحجري الوسيط والحديث، وآفاق فترة كرمة ونبته ومروي، كما تشير أيضا إلى تاريخ مبكر للاستصلاح الزراعي ربما يجعل الموقع في مصاف المستوطنات الزراعية المبكرة في السودان، إلى جانب أهمية الحيوان والرعي”.
ويضيف أن الموقع يعد “أنموذجا حيا وفريدا للتلاقح الثقافي بين المجتمعات المحلية في وسط السودان والحضارات المعاصرة لها في الشمال”.
ووجدت البعثات المنقبة في الموقع عظاما بشرية وحيوانية، وأدوات زينة وقطع فخار، من أهمها قطع فخار -يقول الدكتور أحمد إنها- تعود لنهايات العصر الحجري الوسيط (الألفية السادسة قبل الميلاد).
ليس الأول
هذا “الاعتداء” على الموقع ليس بجديد، حسب إفادة أمينة متحف سنار الأستاذة ثقة حسن التي تحدثت بمرارة لكونها آثارية ومن المنطقة، إذ تقول إن “الاعتداء على المواقع الأثرية ليس بالأمر الجديد، وهذه حقيقة محزنة. وكثيرا ما يتحرك الآثاريون بشكل شخصي للتنبيه”.
تحكي ثقة عن تمدد عمليات بناء المنازل في جبل موية إلى حمى الموقع، مؤكدة أنها حينما تحدثت مع الأهالي طالبوا بوضع علامات محددة وأن تعد الهيئة مخططا تقريبا (كروكيه) للموقع، وهذا ما لم تقم به هيئة الآثار، وهو ما جعل ثقة تعبر عن شكها في مدى جدية الحكومة في الاهتمام بالآثار.
وفي إفادتها وفق الجزيرة نت، أشارت ثقة إلى وجود حفريات في الموقع، وقالت إن هناك حفريات على مستويات عميقة تصل لعشرات الأمتار في سفح الجبل لا علاقة لها بالآثار، وإنما يقوم بها الأهالي لصناعة الطوب.
ويتحسر الدكتور أحمد على هذه “الاعتداءات على موقع يعول عليه كثيرا وبدأت نتائج المسوحات فيه بالظهور”، وبسؤاله إن كانت هناك أعمال توعية تقوم بها البعثة الآثارية في أوقات عملها تجاه السكان أجاب “بما أن السكان الحاليين في منطقة جبل في قلب ما نقوم به من أعمال، كان لزاما علينا أن نقوم بأعمال توعوية وأن نتشارك أعمالنا على أوسع نطاق مع أكبر عدد منهم”.
حتى المتاحف
وحيث إن سنار منطقة متعددة المواقع الأثرية، سألنا الأستاذة ثقة عن الأوضاع فيها، وعن المدينة القديمة على وجه التحديد ( 17 كلم شمال المدينة الحالية)، فأجابت “زرت الموقع قبل ذلك، وفوجئت بأحد السكان قد حرث جزءًا منه بغرض الزراعة باستخدام جرار”، وهو ما يؤكد مدى استسهال الاعتداء، وأمن العقوبة، وضيق الأفق حسب قول المتحدثة.
وعما ينتظر الآثار السودانية من ضياع، أفادت ثقة بأنها قدمت بلاغا لدى الشرطة، ولكنها لم تستطع متابعة الأمر لاقتضائه السفر إلى مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة التي يتبع الموقع لها.
وعن المتحف الذي تديره ثقة، تقول إنه متصدع وبه مشاكل في السقوف والأرضيات، وهو بشكل عام لا يصلح للحفاظ على ما فيه من مقتنيات وقطع أثرية، كما أنه لم يتم ربطه بشبكة الكهرباء العامة منذ إنشائه.
وحدثتنا أمينة متحف سنار عن بعض جهود شباب المدينة في دعم المتحف، وقالت إن الأمر وصل إلى الحكومة الاتحادية، كما صدرت وعود من الولاية، لكنها لم تتحقق على أرض الواقع حتى الآن.
حقيقة مرعبة
الدكتور أحمد حسين ختم إفادته قائلًا “ربما الآن هو الاعتداء على موقع جبل موية، لكن الحقيقة المرعبة أن أغلب المواقع الأثرية لا تتمتع بالحماية الكافية، وهي عرضة للاعتداء، خاصة عندما يكون هناك ظن بوجود كنوز أو ذهب، أو يكون الموقع قريبا من التمدد السكاني والزراعي”.
منذ أن سرق الإيطالي جيوسيبي فيرليني الذهب والمجوهرات الموجودة في أهرامات سودانية، مفجرا قمم أكثر من 40 هرما ليتمكن من الدخول إليها، والاعتداءات على المواقع الأثرية لا تكف، مما عرض تاريخا مهما للضياع، ويرى المراقبون أن غياب وضعف الحكومة في السودان يغري بمزيد من العبث في مقدراته على أكثر من صعيد.