صَوْملة السودان وآثارها

ما يجري حالياً في السودان هو ” صَوْمَلُتها”، وتعطيل عملية الإنتاج وشل حركة الحياة. وقد قُدر لي أن أزور دولة الصومال لدعوة رئيسها لحضور مؤتمر القمة العربية عام 2017 في الأردن، حيث نقلت رسالة من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى رئيس الصومال بهذا الخصوص.

وقد وجدت أن الصومال التي كانت إمبراطورية منتعشة حتى نهاية القرن التاسع عشر قد تقلصت إلى دولة مشرذمة لا حياة فيها إلا للإرهاب، ولقوات حفظ السلام الأفريقية، والتي تتكون من حوالي إحدى عشرة دولة.

والأنكى من ذلك أن الصومال التي اعتبرت واحدة من أغنى الدول بالثروة الحيوانية قد تقلص مصدرها الأساس. والشعب يعاني الأمرين. ولم تعد النساء جميلات كما كن، ولا الشباب بالطَلّة المعهودة، ولا الملابس الملونة الجميلة بمقدور عليها، ولا السهوب تضج بالثغاء والخوار.

كل هذا جرى حتى صارت الصومال منسية، ولا أحد يتذكرها إلا لماماً. وعلى شكل جمل غير فعالة ومسافات زمنية لا تجعل البحث فيها متواتراً ذا قيمة. وقالت العرب منذ أكثر من نصف قرن إن السودان هي سلة الغذاء العربي. وأن عشرات الملايين من الفدادين الزراعية تكفي لاطعام مليار نسمة، وبعد هزة النفط قامت فيها استثمارات زراعية ومعدنيه ومناجم ذهب وفضة ويورانيوم، ولكن عجز البنى التحتية وعدم استكمال ما أنشئ منها، عطل قدرتها على الإنتاج والتصدير.

والسودان قادر على تصدير اللحوم، والقطن، والسمسم، والقمح والصويا، والأرز، والسكر، والأسماك، والفستق. وتوفير الفواكه شبه الاستوائية بأنواعها المختلفة من الحمضيات، إلى المانجو والأفوكادو، والخضروات الزاحفة. ولكن كل هذا تراجع في ظل التوترات السياسية المتتالية منذ أيام الفريق إبراهيم عبود الذي ترأس الوزارة وسُدة الرئاسة بين الأعوام 1958-1964. ومن بعدها شهدنا حكماً مدنياً لفترة قصيرة، في بدايات عام 1969 وقع انقلاب عسكري جاء بالرئيس جعفر النميري، والذي عمل رئيساً للدولة ورئيساً للوزراء بين الأعوام 1989-1976، ثم رئيساً حتى عام 1985.

وبعد سقوط النميري توالت حكومات مدنية كان بطلاها كل من حسن الترابي والصادق المهدي. وقد تولى الصادق المهدي (ابن الإمام المهدي) لفترتين رئيساً للوزراء، كان آخرها إبان حكم الفريق والرئيس السابق عمر البشير، إلى أن تولى قائد الجيش البرهان وآخرون معه مقاليد الحكم بعد الإطاحة بحكم البشير في 2019. وقد تعاقب على السودان منذ عام 1956 بعد خروج البريطانيين منها عشرة رؤوساء جمهوريات. وحصلت فيها أربعة انقلابات عسكرية.

وبالرغم من أن الاقتصاد السوداني قد تراجع بشكل كبير في السنوات الثماني الأخيرة، إلا أنه مر بفترات نمو قبل العام 2018 بكثير. ولعل أفضل سنوات النمو كانت عام 2002. وفي العامين 2006 و2007 بقي يسير بخطى وئيدة حتى العام 2018، حيث تراجع النمو في الناتج المحلي الإجمالي إلى سالب 2.8% وإلى سالب 2.5% عام 2019، وسالب (7.2%) عام 2020، وسالب (3%) عام 2021. ومع أن المعلومات بعد عام 2021 غير متاحة فإن معظم الأرقام من العام 2018 يمكن اعتبارها تقديرية.

ولم يثبت الأمر على هذا الحال، فقد شهدت السودان ارتفاعاً حاداً في معدلات التضخم الناتجة عن تراجع سعر صرف الجنيه السوداني، ما رفع أسعار المستوردات، وسبب انتكاسة لصورة توزيع الدخل. وفي العام 2019 تراجع ترتيب معدل دخل الفرد في السودان إلى المرتبة 173 بين دول العالم محسوباً بالأسعار الجارية في ذلك العام.

وقد وَهَن الاقتصاد السوداني بعد سنوات النزاع التي أفضت إلى انفصال دولة جنوب السودان والتي اقتطعت مساحة بلغت حوالي 645 ألف كيلومتر مربع من أصل مساحة السودان قبل الانفصال عام 2011 والتي كانت حوالي (2.5) مليون كيلومتر مربع.

ولو أضفنا ما سببته حرب دارفور التي استمرت من العام 2003 وحتى العام 2020 (أو 16 سنة و11 شهراً وثلاثة أسابيع وستة أيام)، وما تقاطع معها من حرب في كل من الولايتين المجاورتين لبلغت الكلفة المباشرة 30 مليار دولار. علماً أن بعض المصادر تقول إن الحرب كان يمكن تجنبها لو وافقت الحكومة السودانية على زيادة مخصصات دارفور بمقدار 60 مليون دولار سنوياً.

وتقدر الأمم المتحدة أن عدد الذين قتلوا في الحرب حوالي 300 ألف شخص، وأن عدد النازحين والمهجرين من بيوتهم تراوح بين 2.85 مليون وثلاثة ملايين شخص، علماً أن تقديرات الحكومة السودانية لعددهم لم تتجاوز 450 ألفاً فقط.

إذن قبل أن تحصل حرب “الجنرالَيْن” الحالية، كان الوضع في السودان سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وقبلياً وإثنياً وضعاً متفجراً. إذن صارت هبات الله الطبيعية في أرض السودان مصدر نقمة أكثر منها نعمة. وهذا هو الذي يفسر قساوة ما تعاني منه هذه الدولة الغنية.

ويقول بعض المحللين العرب، وبخاصة العاملين في قطاع الغذاء والأمن الغذائي العربي، إن السودان كان يمكن أن يُغْني العرب عن استيراد الحبوب واللحوم، والتي تشكل فاتورة ضخمة على الموازين التجارية العربية، وتعرضها للانكشاف حيال أعدائهم وخصومهم. وتشكل المستوردات من الطعام لدول الشرق الأوسط ما نسبته 12% من المستوردات العالمية علماً أن سكانها لا يزيدون عن 5% من سكان العالم. ولكن السودان كان قادرا على تغطية معظم ذلك العجز، خاصة في الحبوب واللحوم.

إن إبقاء السودان على حاله سيكلف كثيراً، ولن يقتصر الأمر على تضييع أجيال إضافية تؤدي إلى تأخر صحوة هذه الدول إلى حوالي الجيلين، ولكن الحرب ستكون لها آثار كارثية على الدول العربية والأفريقية المجاورة للسودان. وسينزح الملايين من السكان إلى الدول المجاورة للسودان مثل جنوب السودان، أوغندا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد، وكينيا، وإثيوبيا، وإرتيريا في القارة الأفريقية، وكل من مصر وليبيا كدول عربية في أفريقيا. وقد يصل مَدُّ المهاجرين إلى الأردن والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي (السعودية خاصة).

والسؤالان الأساسيان المطروحان على بساط البحث هما: هل بالإمكان إيقاف الحرب التي بدأ مداها يتسع ويتمدد إلى معظم مناطق السودان، أم أن وقت إيقافها قد فات؟

والسؤال الثاني هو: إذا نجح أصحاب النوايا المخلصة في إطفاء فتيل الحرب، فهل بالإمكان تحويل السيوف إلى محاريث؟ وهل يضع العرب برنامجاً لإخراج السودان من محنته عن طريق وضع خطة إنتاج استثمارية يساهم فيها القطاع الخاص العربي والأجنبي، واستكمال البنى التحتية المطلوبة، واستزراع الأراضي الزراعية، وتمكين السودان من استثمار موارده الطبيعية؟

هذا السؤال الآن برسم الإجابة. ولا يجوز على الإطلاق أن يقف العرب ساكتين على احتمالات انفراط عقد أي دولة عربية، وبخاصة الكبيرة منها. لقد رأينا ما سببه هذا الواقع الأليم من تدافع الأمم علينا، وما أدى إليه من سلب للثروات، وما كبدها جميعاً بشكل مباشر وغير مباشر من خسائر جمّة.

عندنا ثروات هائلة في دولة اعتدي على كرامتها، ونهبت ثرواتها، وضاع جيلها الشاب، وتبعثرت بشرياً وثروة وأُهدرت فيها مئات الألوف من الأرواح؟

أما آن لنا أن نتعلم، إذا سكتنا عن السودان فإن دولاً أخرى قد تعتقد أنها في مأمن من الشر، ولكنها قد تجد أنها أكلت يوم سكتت على الضباع التي أكلت شقيقاتها من قبل.

على العرب أن يغضوا الطرف عن خلافاتهم السابقة، وأن يبدأوا في فتح صفحة جديدة. وعلى الكبار منهم أن يتعاطفوا مع الدول الأقل حجماً أو سكاناً أو ثراء. وأن يظهروا للعالم أنهم يقفون صفاً واحداً. وهذه ليست موعظة، ولكنها هي الطريق الوحيد الباقي إذا أردنا الخلاص لهذه الأمة. وانهيار السودان كما حصل مع الصومال، سيؤدي إلى ضياع فلسطين، وتفكك سورية والعراق، وتهديد اقتصاد مصر، وتونس، وانكشاف موريتانيا، وزيادة الضغوط على الأطراف.

مصلحة الأنظمة العربية كلها والشعوب أن تنتهي حالة البعثرة وتصفر ولو لسنوات معدودة الخلافات بعضها مع بعص حتى تستدرك ما فاتها، وتؤسس لمستقبل أفضل.

العربي الجديد

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.