قبل أن ينهار 98 ألف مبنى في مصر

ممدوح الولي

في شهرٍ واحد، شهدت مصر مؤخرا 6 حوادث انهيار لبنايات سكنية مأهولة مخلفة ضحايا في محافظات عديدة، وهي قصة -على مأساويتها- متكررة منذ عقود، ولم يعد أحد يتوقف أمامها إلا بقدر ما يستغرق المشهد.

لكن ربما ينبغي على هذه الحال أن تتغير، وأن يلتفت أحد إلى المشكلة التي لا يبدو منها إلا رأس جبل الجليد، فالإحصاء السكاني الأخير يكشف أن 24% من مباني مصر يحتاج إلى ترميم (أكثر من 3 ملايين مبنى)، وأن نحو 98 ألف مبنى مأهولا لم يعد يجدي معها الترميم بل تحتاج إلى إخلاء وهدم، ولا ينبغي أن ننتظر أن تسقط جميعها على رؤوس من فيها.

وسقوط المباني هو ثمرة مزيج من العجز المادي، وخلل الأولويات، وتقاعس الأجهزة المسؤولة، ثم الفساد الذي يجد له بيئة خصبة، فكثير من المباني القديمة لم يعد أصحابها قادرين على صيانتها، والأجهزة المحلية تتقاعس عن مهمتها في مراقبة حالة المنشآت ومخالفات البناء، ويتجاهل بعض العاملين فيها تلك المخالفات تحقيقا لمصالح مادية، أما الشرطة المختصة بتنفيذ قرارات الإزالة فتنشغل عن مهمتها بشؤون أخرى.

بداية الظاهرة.. الزمان والملابسات
لم يكن الحال دوما كذلك في مصر، ولم تبدأ ظاهرة انهيار المباني إلا في الستينيات من القرن الماضي، ولذلك أسباب يمكن استقراؤها، فقد كان ملاك البيوت في الحقبة الملكية أكثر حرصا على سلامة المبنى لإطالة عمره، فقد كان تأجير العقار نشاطا اقتصاديا مجديا، وحالة العقار هي أحد أسباب جذب السكان المناسبين.

ولكن الأمور تغيرت مع انهيار الملكية وقيام نظام يوليو/ تموز 1952 حيث ألزم الملاك بتخفيض قيمة الإيجارات بنسبة 15%، ورفعها لاحقا إلى 20%، وفرض عقوبة الحبس 3 أشهر على المخالفين، كما جمد القيمة الإيجارية بصرف النظر عن معدلات التضخم، وسمح بتوريث عقد الإيجار الى ورثة المستأجر بالقيمة الإيجارية نفسها.

لم يعد إيجار العقارات اقتصادا مجزيا، وفقد المالك معظم حقه فيه، ولم تعد مبالغ الإيجار الزهيدة -مع مرور الزمن- تكفي ليقوم بأعمال الصيانة الدورية، لا سيما في ظل ارتفاع أسعار مواد البناء، ولذلك كله، فقد انقلبت الآية، وأصبح بعضهم يتغاضى عن صيانة المبنى أملا في انهياره، وعندها يتخلص أخيرا من المستأجرين ويعيد بناءه وبيعه بأسعار السوق المرتفعة.

أما المستأجرون، فأغلبهم أيضا لا تسمح دخولهم المتدنية بالقيام بأعمال الصيانة والترميم، ولا تسمح لهم في أغلب الأحوال للدخول في علاقة إيجارية جديدة تفرض عليهم أسعار السوق الحالية.

وسط هذا المشهد المعقد، تعاني الإدارات الهندسية المكلفة بمراقبة مخالفات البناء من مشكلتين كبيرتين، الأولى هي الفساد الذي يدفع بعض موظفيها إلى السكوت عن المخالفات في مقابل الرشى، والثانية هي نقص عدد المهندسين الذي يدفعها إلى الاكتفاء بمتابعات ظاهرية.

وحتى حين تصر إحدى تلك الإدارات الهندسية على إزالة مبنى لخطورته على سلامة من فيه، يلجأ سكان المبنى أنفسهم للقضاء للطعن في القرار، ويطلب المحامون خبراء للمعاينة مرة وراء مرة في مسار قضائي يستغرق وقتا طويلا، وإذا أيد القضاء حكم الإزالة تبدأ مشكلة توفير المعدات اللازمة لذلك، وتوفير الشرطة التي تحمي العمال والمقاولين من اعتداءات الأهالي الغاضبين، ولا تقبل الشرطة بحماية العمال إلا بعد إجراء دراسة أمنية لتداعيات الإزالة، وهو عمل يستغرق شهورا أخرى، فإذا ما قررت في النهاية التنفيذ وتصدى لها الأهالي الذين لا يملكون نفقات الانتقال إلي بيوت جديدة، اكتفت في معظم الأحوال أن يوقعوا لها إقرارات بتحملهم المسؤولية الكاملة عن المخاطر التي قد تلحق بهم.

وهكذا نصل إلى المشهد قبل الأخير من تلك القصة الدرامية، إذ يفضل سكان المباني المهددة البقاء بها عن خيار الإقامة في الشوارع أو في خيام أو عشش غير آدمية، إذ لا يوفر لهم أحد بديلا يناسب إمكاناتهم في أغلب الأحيان، ولا يبقى بعد ذلك إلا أن يحدث الانهيار فيموت من يموت، ويعيش من يسعفه الوقت للخروج.

وللفساد بصمته
لكن عوامل الزمن ليست السبب الوحيد في الانهيار، والفقراء ليسوا الضحايا الوحيدين، فهناك الكثير من البنايات الجديدة التي تسقط على ملاكها الذين اشتروا وحداتها بأسعار غالية، والفساد هنا هو السبب، فكثير من المقاولين يخالف الارتفاعات المحددة للبناء، ويضيف طوابق لا تتحملها أساساته، أو يستخدم مواد بناء مغشوشة، أو لا يلجأ لإشراف هندسي توفيرا للنفقات، وفي كل تلك الحالات تكون الرشوة هي الحل ليبقى المبنى ويباع حتى يسقط على من فيه.

ذاكرة الشارع المصري تزخر بحالات كثيرة من النوع الأخير، أبرزها بناية ميدان هليوبوليس -في حي مصر الجديدة الذي يسكنه خليط من الطبقة العليا والوسطى العليا- فقد انهارت عام 1992 على نحو 70 من سكانها، وبناية حي مدينة نصر التي كان من بين ضحاياها 12 جنديا من قوات الدفاع المدني، وعمارة حي لوران بالإسكندرية عام 2007 -ذات الـ14 طابقا- وراح ضحيتها 31 شخصا، وغيرها كثير في مدن كالمنصورة ودمياط، ولا تخلو سنة من عدة انهيارات لمبان بنيت حديثا، مخلفة قتلى وجرحى.

الدور الحكومي تجاه البنايات المتداعية لا يزال كما هو منذ عقود، فالتحرك لا يحدث إلا بعد أن تقع الواقعة لرفع الأنقاض واستخراج الضحايا وصرف الإعانات.. وهذا يحتاج إلى تغيير، فلم يعد يسعنا الاعتذار بالجهل.. قاعدة البيانات موجودة، والخطر محدق

حاولت وزارة التنمية الإدارية في العام 2007 إنشاء قاعدة بيانات عن حالة المباني المصرية، واقتضى ذلك أن تقوم بحصر ومعاينة دقيقة لكل مبنى في مصر، ولكن المشروع الطموح تعثر بعد خروج الوزير الذي تبناه.

المحاولة الثانية لإنشاء قاعدة البيانات كانت في 2017، إذ أضاف الجهاز المركزي للإحصاء إلى بيانات تعداد السكان الذي ينفذه كل 10 سنوات، حصرا بعدد وعمر وحالة المنشآت في مصر، وهكذا أصبحت هناك لأول مرة صورة شاملة بدأت برصد عدد وحالة المباني المقامة قبل عام 1944 ثم المقامة في كل 10 سنوات تالية، ورصدت ما يحتاج لذلك من ترميم، وهذه خطوة كبرى في الطريق الصحيح.

الإحصاء الأول للمباني
أبرز النتائج كانت أن في مصر مع انتهاء إحصاء السكان لعام 2017 نحو 13 مليونا و445 ألف مبنى، منها 3 ملايين و233 ألفا تحتاج إلى الترميم بدرجاته (بنسبة 24% من إجمالي المباني)، وبين هذا العدد هناك نحو 428 ألف مبنى يحتاج إلى ترميم كبير، أبرزها في محافظة الشرقية تليها محافظات سوهاج والمنيا وأسيوط والبحيرة، ويبدو واضحا كيف يحتل صعيد مصر مكانه على رأس قائمة العقارات المتهالكة والخطرة، ليضيف بذلك إلى معدلات الفقر المرتفعة التي تنتشر بين سكانه.

الإحصاء كشف أيضا أن عدد المباني غير القابلة للترميم والواجب هدمها يصل إلى 98 ألف مبنى (بنسبة نحو 1% من المباني في مصر)، وخارطة هذه المباني وحالتها وتوزيعها معروفة الآن بشكل دقيق، ولا يبقى إلا أن تحتل القضية مكانها على سلم الأولويات.

أسعار القمح العالمية عند قمة 5 شهور
حضر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حفل إعلان نتائج التعداد، وبعد استماعه لملخص نتائجه تعهد بالتصدي للمشاكل الإسكانية التي تكشفت، لكن بعد مرور 6 سنوات لم يحدث شيء، رغم أن من حضر بجواره من المسؤولين عن هذا الملف لا يزالون في مناصبهم، ومنهم وزيرة التخطيط، ورئيس جهاز الإحصاء الذي تولى بعدها منصب وزير التنمية المحلية وهو المسؤول الأول عن ملف انهيار المباني.

في عام 2021، وفي إطار التحول الرقمي، أعلنت وزارة الاتصالات عن مشروع “الرقم القومي للعقار” بالتعاون مع عدة وزارات، أبرزها الكهرباء والمالية والحكم المحلي، والمشروع المهم يرتكز على قاعدة البيانات التفصيلية التي أتاحها تعداد السكان عام 2017، ويسعى لتوفير بيانات تفصيلية عن سلسلة ملاك كل عقار ووصفه المعماري، وتقرر البدء من محافظة بورسعيد الأقل سكانا، لكن الغرض المُعلن للمشروع كان جبائيا، ويهدف إلى تعزيز الدخل الحكومي من الضريبة العقارية التي يرى المسؤولون أن حصيلتها ضعيفة، دون أن يكون لذلك الدخل دور في التعامل مع تلك المشكلة.

وحتى صندوق تطوير العشوائيات الذي أنشئ في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عام 2008، وكان من مهامه ترميم المباني التي تشكل خطرا على حياة سكانها، تحول عام 2021 من هيئة خدمية إلى هيئة اقتصادية تهدف للربح، وبعد أن كان يبني المنازل لسكان العشوائيات، انصرف إلى البناء للطبقة المتوسطة بمساحات تصل إلى 179 مترا.

الدور الحكومي تجاه البنايات المتداعية لا يزال كما هو منذ عقود، فالتحرك لا يحدث إلا بعد أن تقع الواقعة، فتتدخل أجهزة الدفاع المدني لرفع الأنقاض واستخراج الجثث وإنقاذ المصابين، ثم تصرف الدول إعانات اجتماعية للضحايا، هذا الأمر يحتاج إلى تغيير، ولم يعد يسعنا الاعتذار بالجهل، فقاعدة البيانات موجودة والخطر محدق.

الجزيرة


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.