أين الشرطة ؟ وكيف ستعود ؟ (3-3)
بسم الله الرحمن الرحيم
أين الشرطة ؟ وكيف ستعود ؟ (٣-٣)
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
أن بناء الشرطة في بيئات ما بعد الصراع ليس بالأمر الهين وعادة ما تكون هناك الكثير من المعضلات والتحديات مثل السيولة الأمنية و الدستورية والأستقطاب السياسي الحاد، تراجع قدرات الدولة وفقدان السيطرة في بعض الأحيان، الصعوبات الاقتصادية التى قد تشكل حجر عثرة في سبيل إنفاذ الخطط والبرامج الجديدة، لذلك يتطلب الأمر حدوث توافق سياسي ومجتمعي عريض ومقاربة – غير حزبية – لمفهوم إعادة البناء بشكل واسع يشمل الأمن كمفهوم يتم تقويضه في الدول الى تمر بحالات إنتقال صعبة مثل الحالة السودانية.
أين الشرطة ؟ وكيف ستعود ؟ (١-٢)
أين الشرطة ؟ وكيف ستعود ؟ (2-3)
لعل من أكبر معضلات وتحديات إعادة بناء الشرطة هي مسألة إعادة بناء الثقة بينها والمجتمع وفي ذلك تحضرني مقولة السيد دوايت هيننجر ، رئيس قسم شرطة مدينة فيل – ولاية كولورادو الامريكية الذي قال “لكي تكون أجهزة إنفاذ القانون فعالة حقًا يجب أن يحصل رجال الشرطة والوكالات على المساعدة والدعم الفعالين من كل فئة من فئات مجتمعاتنا. ويتطلب إنشاء هذه العلاقات الحاسمة والحفاظ عليها لبناء تفاهم متبادل ومستوى ثقة مع المجتمعات المتنوعة وقتًا وجهدًا مستمرا”
وكما هو معروف فأن أفضل طريقة لبناء الثقة هي من خلال الإستماع إلى الأشخاص الذين نخدمهم أفكارهم ومخاوفهم وشكوكهم وهموهم” وعلى الجانب الأخر يجب أن يصغي المدنيين لصوت الأجهزة الامنية في ماذا تفكر ؟ ماهي تحفظاتها ؟ طبيعة عملها وظروفها والتعقيدات التى تكتنف الوضع الأمني !! ماهي الإمكانيات المتوفرة وماهو الطموح أو الحد الأدني الذي يعينها على أداء مهامها …. الخ. أن بناء الثقة يساعد بشكل إيجابي في بناء علاقات وشراكات إستراتيجية بين الأجهزة الأمنية والحكومة المدنية و المجتمع. إلا أن واقعنا يحكي عن أزمة ثقة متبادلة !! وتبعاً لذلك لابد من الإشارة إلى أن لبناء الثقة خمسة قواعد أساسية هي التواصل، الوضوح، الصدق، الإعتراف بالأخطاء، الوقت. والوقت يعني أن الثقة لايمكن بناؤها في يوم واحد ولا تبني بقرار !! لكن الثقة تبني بالإلتزام بالقواعد الأربعة والموضوعية وعدم استعجال النتائج.
العالم قطع شوطاً بعيداً فيما يلي عمليات إعادة بناء الشرطة في بيئات ما بعد الصراع وأولت منظمة الأمم المتحدة هذا الأمر عناية فائقة وأصبح من صميم أعمالها وتبعاً لذلك قامت بوضع مبادئ توجيهية بشأن بناء قدرات الشرطة وتطويرها وهي مسائل لا تتعارض أبداً مع مبدأ سيادة الدول ولا تأتي في إطار فرض شكل أو أشكال ملزمة للدول فلكل دول ظروفها وسياقاتها المختلفة. وبالتالي لابد من تعزيز التعاون الدولي بما يضمن توفير أكبر قدر ممكن من المساعدات المادية والفنية.
أن إعادة بناء الشرطة تتضمن بالضرورة تغيير في البناء الهيكلي بعمليات فصل وأدماج بعض الإدارات والأنشطة وفق معيار مدي ارتباطها بالأنشطة والمهام والمسئوليات الأمنية التى تقع على عاتق الشرطة بشكل يعكس أهداف الشرطة السودانية مقرونة بالأهداف السبعة للعمل الشرطي العالمي التى وضعتها منظمة الشرطة الدولية (الأنتربول) والتي حددت من خلالها أولوياتها في مجال مكافحة التهديدات الإجرامية والإرهابية التى تتماشى مع خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام ٢٠٣٠م من أجل إقامة عالم أكثر أمانا واستدامة للأجيال المقبلة. والأهداف السبعة هي (مواجهة الأرهاب،تعزيز سلامة الحدود،حماية الفئات السكنية الهشة،تأمين الفضاء السايبري للأشخاص والشركات، تعزيز النزاهة على الصعيد العالمي،القضاء على الأسواق غير المشروعة، دعم الأمن البيئي والأستدامة البيئية) بالتالي عند إعادة النظر في البناء الهيكلي للشرطة لابد من التأكد فيما اذا كانت لديك ضمن هياكلك إدارات شرطية تعني بالعمل على تحقيق هذه الأهداف أم لا أو انها موجودة لكن بشكل أقل من التحديات.
مما لاشك فيه أن حرب رمضان أو حرب الخامس عشر من أبريل التى لا زالت رحاها تدور قد أظهرت الكثير من أوجه القصور في الأداء الشرطي صحيح نحن في المقال السابق أوضحنا بشكل جلي الوضع القانوني للشرطة خلال الحرب والوضع الميداني وكيف أن ممارسات المليشيا المتمردة أثرت في أداء الشرطة ورغم البطولات التى سطرها الكثيرون من رجال الشرطة في العديد من المواقع ورغم الأستبسال الأسطوري لرجال الإحتياطي المركزي إلا أنه كان بالأمكان أحسن مما كان لاسيما فيما يلي العمل الجنائي أو إستعادة بيانات ووظائف السجل المدني والجوازات والمرور إذا كنا متحسبين لمثل هذه الظروف بشكل جيد.
لا نريد أن نلقي باللوم على أحد أو نتهم أحد بالتقصير فما حدث هو نتاج طبيعي للحالة السودانية التى أفرزتها عقود من الصراعات السياسية والإنقلابات العسكرية والتراجع عن مواكبة التطور العالمي وعدم الجاهزية لمثل هذه التحديات وهو أمر لم يحدث في الشرطة فحسب وإنما في كل مؤسسات الدولة بل وحتى مؤسسات القطاع الخاص وكبريات الشركات. كل القطاعات والمؤسسات الحكومية والخاصة واجهت تحدي (إدارة استمرارية الأعمال (Business Continuity Management ولم تكن هناك خطط واضحة ومحدثة للتهديدات المحتملة وتأثيرها على إستمرارية الأعمال وكيفية تلافي ذلك عبر المرونة التنظيمية مع القدرة على الاستجابة الفعالة لضمان استمرارية الأعمال في بيئة المخاطر والأزمات مهما كانت درجاتها، و تعزيز الأمن والاستقرار وحماية الأرواح والممتلكات واعتماد أفضل السبل والآليات المناسبة للحد من تلك المخاطر والتقليل من آثارها.
نحن نعلم أن هناك مجهودات خارقة قد بذلت وتبذل في ظروف بالغة التعقيد والصعوبة وفي ظل مخاطر عالية لكن دعونا نتفق أن ما بعد ١٥ أبريل يجب ان لايكون مثل ما قبله وعلينا أن ندرس كل سلبيات وإيجابيات هذه التجرية بشكل شفاف والأقرار بأن لدينا – مشكلة – ذلك هو المدخل الصحيح لمشروع التغيير وإعادة البناء.
ختاماً قد يقول قائل بأن الوقت غير مناسب لمثل هذا الحديث و أمر التمرد لم يحسم بعد نقول أنه ما أضر بنا شئ أكثر من أننا دوماً نميل الى الأنتظار ريثما يأتي الوقت المناسب !! وهناك مقولة إنجليزية تقول ” لا تنتظر “الوقت المناسب” لأنه لا يأتي أبدًا. فقط انطلق وافعلها الآن!” Don’t wait for the ‘right time’ because it never comes. Just go ahead and do it NOW!
علي الأقل على المستوي النظري يجب أن نكون في تمام الجاهزية بالأفكار والرؤي والخطوط العريضة لما ينبغي أن يحدث في اليوم التاليThe day after لدحر التمرد. لأننا لايمكن أن نؤسس دولة مدنية حديثة في غياب أو تراجع درجة الأستقرار الأمني وعليه يجب أن تكون عملية إعادة بناء الشرطة واحدة من أهم أولويات الحكومة القادمة بإذن الله.
***********
* في مقال أو مقالات قادمة ربما نعرض لبعض الخطوط العريضة والأفكار المتعلقة بالخطة العاجلة لإستعادة خدمات الشرطة بشكل كامل RECOVERY PLAN ثم بعض الأفكار العملية فيما يلي إعادة بناء الشرطة في ظل خطة إستراتيجية طويلة المدي واهمية دور الادارة العامة للتخطيط والادارة العامةللتدريب في ذلك.