التمرّد والأحزاب وأفق الانتقال في السودان
التمرّد والأحزاب وأفق الانتقال في السودان
_ خيري عمر _
يشهد السودان تحرّك بعض المكونات السياسية والحزبية، فمع نهاية الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) أعلن بعض مستشاري “قوات الدعم السريع” استقالتهم، وفي بداية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بدأت “تنسيقية القوى الديمقراطية” مرحلة توطين أنشطتها في أوروبا. ويثير تزامن هذه التحرّكات مع سير المعارك في السودان النقاش حول تأثير التركيبة الحزبية على مآلات الحرب والسياسية السودانية. وهنا، تبدو أهمية تناول السياقات السياسية مكانة الدوائر الحزبية والعسكرية في المرحلة الانتقالية.
كان التحرّك الأول في إعلان خمسة مستشارين، 26 أكتوبر الماضي، استقالتهم من المجلس الاستشاري. وعلى الرغم من الطابع الرمزي لهذه الخطوة، فإنها تفتح الطريق لتفكّك الحاضنة السياسية لقوات لدعم السريع، وخصوصاً مع كشف المؤتمر الصحافي عن جانب من مساعي أسرة قائد هذه القوات حمدان دقلو (حميدتي) إلى تشكيل وضع السودان العسكري والأمني على ساحل البحر الأحمر، بإنشاء ثلاثة مطارات عسكرية وقوة بحرية قوامها 30 ألف عنصر، ضمن مشاركات مع أطراف إقليمية ودولية. بالإضافة إلى تزامن هذه المشاريع مع تطلع إثيوبيا لتكون قوة بحرية.
وفي أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، عقدت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) اجتماعات في لندن لتوضيح موقفها من الحرب الجارية، وفي مناقشات عبد الله حمدوك في “تشاتام هاوس”، قام بتخليه عن الدعم السريع ورفض الانتهاكات ضد المدنيين، لكنه، في الوقت نفسه، دعا إلى توسيع الاحتجاج والتظاهر، كحراك في المنفى، ضد الانتهاكات. ورغم عمومية التوجيه، ينصرف موقف تحالف “تقدم” لتنظيم مظاهرات ضد الجيش والحكومة في العواصم الغربية.
على جانبي الحراك السياسي، وبينما استمدّت الاستقالة زخمها من تقدم الجيش في الخرطوم والوسط وشرق السودان، فهي توضح تنامي الظهير الاجتماعي للحكومة، وعلى الوجه الآخر، تراجع الحاضنة الاجتماعية لـ”الدعم السريع”. وتعكس مظاهرات لندن، أوائل نوفمبر الجاري، ضعف تحالف “تقدم” وعدم قدرته على تقديم صورة قوية لمؤيديه في الداخل والخارج، وخصوصاً مع انتشار حوادث حرق القرى ونهب البيوت، حيث لم يكن هناك وجهٌ للدفاع عنها.
تشكّل هذه المشاهد اللقطات الأخيرة في الأزمة الجارية في السودان، ما يستدعي التعرّف إلى مُحفزات التمرّد. ومنذ بداية المرحلة الانتقالية في 2020، انكشفت الروابط الخارجية لقوى الحرية والتغيير، لتشمل بريطانيا ودولاً أفريقية، لتقوم الحكومة الانتقالية قناة الوصول السهل للنفوذ الأجنبي. ظهرت هذه الملامح مع طلب عبد الله حمدوك، في أثناء رئاسته الوزراء، الوصاية الدولية على الحكومة والجيش، واستمرّ، لاحقاً، في الدعوة إلى استبعاد القوات المسلحة من العملية السياسية، ليواجه السودان أزمة أخرى في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، نتج منها الدخول في مرحلة إعداد صيغة دستورية جديدة، جرى على أثرها إعادة تشكيل مجلس السيادة.
ومع استمرار هشاشة الكيانات الحزبية وحداثة الهيكل العسكري للدعم السريع، شكلت محاصصة مجلس السيادة مدخلاً إلى انقسام الجيش والقوى المدنية، فقد زادت صعوبة دمج “الدعم السريع” من الصراع على الظهير الاجتماعي للحُكم الانتقالي. وبغض النظر عن ضعف الأحزاب والمكونات النقابية، فقد توزّع تأييدها على المكونات العسكرية. ولذلك، انقسمت مجموعتا الحرية والتغيير على “الاتفاق الإطاري” ما بين الولاء للجيش أو البعثة الدولية، لتواجه الحكومة انقسام المؤسّسة العسكرية وتباين مواقف الأحزاب على خلفية الموقف من قرار رئيس مجلس السيادة في أكتوبر 2021، ليظهر تحالف “قوى الحرية والتغيير ـ المجلس المركزي” تصنيفه انقلاباً عسكرياً، ليتماثلوا مع الموقف الأميركي.
دشّنت هذه الأرضية مرحلة التسارع على التغلغل في مؤسّسات الدولة وازدواج مقرّات الجيش ومعسكراته. فعلى الرغم من محاولات دمج “الدعم السريع” في المؤسّسة العسكرية، هيمنت الميول الانفصالية على تصرفاته، فمنذ بدء المرحلة الانتقالية، انشغل حميدتي بتوسيع نفوذه، وبجانب دعم إطاحة عمر البشير وحماية اعتصام “القيادة العامة”، حرص على تأكيد دوره في إقرار الوثائق الدستورية والبحث عن ظهير له من الأحزاب السياسية. تطور هذا المسار ليصل إلى التساند المتبادل ما بين “الدعم السريع” و”الحرية والتغيير ـ المجلس المركزي”. وهنا، تَكوّنت قاعدة الانقسام الرأسي في الدولة والحركات السياسية.
ومع وضوح الانقسام، اتجهت “قوى الحرية والتغيير ـ المجلس المركزي”، أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إلى تجديد شكلها تحت مُسمّى “لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)” الذي أُعلن عنه في مؤتمر أديس أبابا، 30 مايو/ أيار 2024، ليكون مظلة لأحزاب اليسار وتنظيماتها النقابية، لتشارك في اجتماع ” القوى السياسية والمدنية السوداني” بالقاهرة في السادس من يوليو/ تموز 2024 تحت مظلة تقريب مواقف الأحزاب والنخبة السودانية تجاه وقف الحرب والبدء في الحل السياسي.
وعلى خلاف هذه التطلعات، لم يحدث تغير يُعتد به في الكيانات المدنية، فقد ظل انشغالها الدائم بإزاحة الجيش وتقاسم السلطة، وإزالة التمكين، وهي ممارساتٌ مناسبة لتكوين بيئة عدائية. وبقدر ما تُظهر الوثائق الدستورية عدم تناسب المحتوى السياسي مع متطلبات الانتقال الآمن، فإنها تعكس أولوية الوصول/ الاستيلاء على السلطة لدى النخبة الجديدة.
وفي هذا السياق، جاء انشغال “الدعم السريع” بالتقارب مع قوى حزبية والحديث عن يوميات الحرب على حساب صياغة مشروعه السياسي، واكتفى بالحديث عن مشكلات التهميش وسرديات عامة عن الدولة الجديدة واستلام السلطة، لتكون التطلعات الشخصية واضحةً في كلام حميدتي وبعض مستشاريه.
وفي السياق، تشير تجربتا، “قوى الحرية والتغيير ـ المجلس المركزي” و”تقدّم” إلى الميل الدائم إلى القوى الخارجية، فكل أطروحات حمدوك انصبّت على تمكين العوامل الخارجية من مفاصل الدولة السودانية. لم يكن هذا المنحى وفق أفكار خلاقة، فعلى الرغم من رفض 56 دولة، لم ترق أطروحات الجهتين لاقتراح نظام واضح الملامح بقدر التركيز على مرحلة انتقالية أربع سنوات وبرنامج إزالة التمكين تحت “شرعية” ثورة ديسمبر الديمقراطية. ولعل هذا ما يثير مسألة حيوية عن دور الجناح العسكري للمشروع، “الدعم السريع”، وخصوصاً ما يتعلق بهشاشة تكوينه وتواضع خبرته السياسية. تكشف عمليات التفاوض منذ 2020 عن تمكين حلفاء “الدعم السريع” من السلطة المدنية والجيش.
وبشكل عام، لا تستند مواقف التمرّد إلى خلفية معرفية. وبينما قام مشروع جون قرنق على أرضية فكرية واضحة؛ تصحيح العلاقات في الدولة أو الانفصال، تفتقر دوائر “الدعم السريع” الماكينة الفكرية اللازمة لصياغة مشروع سياسي، فكل المساهمات ارتبطت بالتمويل السياسي، بشكل وَجّه أولوياتها نحو الصراع على السلطة أكثر من الاهتمام بتطوير نموذج للسودان المرغوب. ولهذا، تبدو عملية التمرّد أقل من مسألة إثنية، حيث تقتصر على الاستيلاء، وليس مراجعة علاقات الهامش والمركز. ولذلك، غطت البداوة سلوك “الدعم السريع” في الهجوم على القرى والاستيلاء على الأملاك الخاصة، ما يشير إلى نمط تخريبي لا يستهدف استمالة مجتمع المهمّشين أو غيره من المكونات الاجتماعية.
وعلى الرغم من خِفة المحتوى الثقافي لانشقاق “الدعم السريع”، سوف تؤثر الحرب إلى مدى بعيد في السياسة السودانية، فمن المرجّح أن يؤدّي اتساع الانتهاكات ضد الإنسانية إلى تشكيل أنماط من العداء والكراهية الاجتماعية، فالحرب الجارية تستند إلى تحالف غير متجانس من العسكريين والمرتزقة، وانشغال بعض أحزاب اليسار بملء فراغ ما بعد الرئيس السابق، عمر البشير، تقوم أفكاره على هدم المؤسسات الموروثة من النظام السابق وإعادة بنائها.
تضع هذه السياقات السودان أمام تحدّيات حرجة، فإنه إزاء غياب الأحزاب القوية والقادة الكبار، تقع الدولة في الانقسامات الدائمة. وبجانب العيوب الهيكلية، تمرّ النخبة السودانية بنقص حاد في رأس المال الاجتماعي وشدة الارتباط بأطراف دولية. ساهمت المرحلة الانتقالية في الكشف عن عيوب الحزبية المنتشرة في مرحلة الجبهة الإسلامية/ المؤتمر الوطني، كان أهمّها اتساع الارتباط بالمؤثرات الخارجية، نقص القدرات المؤسّسية وغياب المشروع السياسي. وخلال تنقلها ما بين العواصم الدولية، تَرَسّخت نزعة الاستناد للقوى الخارجية على حساب تنمية المساحات المشتركة.
وعلى مدى تاريخه، ورث السودان ظاهرة انتشار السلاح في أقاليم الحدود، ولم يكن لدى الحكومات القدرة على وحدة المؤسّسة العسكرية، لتوجّه مزاحمة الجماعات المسلحة على الدور الأمني والدفاعي. وكان ترسيم “الدعم السريع” مؤسّسة مُرافقة للجيش عاملاً أساسياً في تعدّد العقيدة القتالية، لتنصرف إلى نمط العصابات في قتل المدنيين. وفي ظل هذه الأجواء، لم يتمكّن السودان من توحيد التشكيلات المُسلحة ضمن الجيش الوطني، وبقيت عند مستوى تنسيقٍ هشّ لمكافحة التمرّد.
ويكتمل انفراط القوة السياسية مع تشتّت الأحزاب وموسمية تحالفاتها، فتاريخياً، لم تقدم ضمانة لتماسك الدولة، وهي، حالياً، تتسق مع عيوبها المُزمنة في ضعف القدرة على حماية الانتقال السياسي أو الحفاظ على الديمقراطية. وتُقدم ممارسات فترة ما بعد عمر البشير مؤشّرات واضحة الدلالة على استدعاء الصراع والتحريض على الحرب، بشكل يُطيح بالوضع الحزبي والحواضن الاجتماعية.
على أية حال، لا توفر الأنشطة الحالية لمؤيدي الحكومة ومعارضيها القوة السياسية اللازمة لوقف الحرب أو معالجة تداعياتها، فبجانب ضعف مساهماتها الفكرية في إنضاج القاسم المشترك للهوية السودانية، فإن ميلها الدائم إلى الانقسام يضعها في خانة العبء السياسي، ما يضع مسؤولية ومهام الانتقال على قيادة الجيش لتحالف اجتماعي، تكون مهامّه في صياغة المحتوى السياسي للدولة بعيداً عن الاستقطاب الحزبي.