أحمد غباشي : فوز ترامب ليس فرصة لأي طرف سوداني !!
ما أن أُعلن فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية، حتى هرعت المليشيا وأذيالها بأرسال برقيات التهنئة، في محاولة بائسة لتقمص دور السلطة الشرعية، ومزاحمة رأس الدولة السودانية، الذي بعث بتهنئته هو الآخر، وفقاً لما تقتضيه التقاليد الدبلوماسية!!..
ومن جهة أخرى تسعى المليشيا لخطب وُد (السيد الأمريكي الجديد)، وقد طفقت أبواقها السياسية في (تقدُّم) و(قحت البائدة) ومجموعات المستشارين، يعيدون الكلام المكرور، عن الإرهاب والأصولية والجيش الذي تسانده كتائب الإرهابيين الإسلاميين..إلى آخر ذلك من أضرُب البروباغاندا البائسة التي اعتادت المليشيا و(قحت البائدة) ترديدها، متوهمة أنّ بتلك الدعاية إمكانها تحريك هوس ( اليمين المتطرف) ضد الإسلام والمسلمين خلال الدورة الجديدة لحكم الجمهوريين في أمريكا!.
لقد حفيت أقدام (تقدم) من أجل تحريك المنظمة الدولية والدول الأوروبية لاستصدار قرارات أممية بإرسال قوات دولية للسودان، ولم تُجدِ تحركاتها نفعًا، كما لم تجنِ من علاقتها بإدارة بايدن والديمقراطيين نفعًا في هذا السبيل.. وهاهي الآن تأمل أن تكون عودة ترامب للسلطة فرصة جديدة لمزيد من المحاولات.. وواقع الأمر أن فوز ترامب لن يكون فرصة للمليشيا وحليفتها (تقدم)، كما لن تكون فرصة للقيادة السودانية تأمل من خلالها لدور إمريكي إيجابي في كف عدوان المليشيا، والدول المساندة لها، عن السودان!!.
ترامب هو رجل اليمين المسيحي المتطرف، وهكذا هم الجمهوريون عمومًا.. واليمين المتطرف يقوم أساسًا على تقديس القيم القومية والوطنية والقيم المسيحية وتقديم ما يرتبط بها من مصالح على كل شيء، واعتبار كل شيء سواها أمرًا لا يستحق الاهتمام، وأن اهتمام الدولة يجب أن ينصب على رعاية المصالح الأمريكية وحمايتها، وحماية اللحمة القومية الخاصة من كل ما يهددها من أخطار داخلية كتدفقات المهاجرين، ومن أخطار خارجية مثل الإرهاب وغيره.. وهم ليسوا كالليبراليين مستعدين للاهتمام بنشر الديمقراطية في العالم، ودعم النخب السياسية الليبرالية في العالم الثالث، والاهتمام بترسيخ منظومة الحقوق الليبرالية التي تشمل؛ حقوق المرأة وفقًا لرؤية تيار الفيمنسزم، وحقوق الشواذ جنسياً..وبقية القمامة الحداثية!!..
وترامب على وجه الخصوص منذ أن جاء إلى الحكم في دورته الأولى، يتبنى منهجية، محددة وهي أن أمريكا لا ينبغي أن تنفق أموالاً فيما لا يلي المصالح الأمريكية، ولذلك يريد الحماية من أمريكا عليه أن يدفع مقابل ذلك، ولذلك قام بتحصيل مئات المليارات من الدولارات من دول الخليج، كتعويض بأثر رجعي عما خسرته أمريكا لحمايتها في حرب الخليج الأولى!..
ولأن ترامب رجل أعمال (تاجر) يتعامل بحسابات الربح والخسارة، فهو خلال السنوات الأربع التي حكم فيها أمريكا، لم يتورط في بؤرة صراع جديدة ينفق فيها من مال دافع الضرائب الأمريكي، فيما عدا دعم إسرائيل، الذي هو من ثوابت السياسة الأمريكية، وله جانب عقائدي بالنسبة لليمين المسيحي بالتحديد!!..
أما فيما يتعلق بالسودان، فإن إدارة ترامب الأولى لم تقدم للسودان، الذي كانت تحكمه قحت شيئًا، لأن قحت بالنسبة لليمين المسيحي، هي مجموعات تصنف إما ليبرالية متطرفة أو يسارية، وكلا التيارين يعتبران النقيض الفكري لليمين، ولذلك لم يقدم ترامب لها شيئًا أكثر مما أخذ منها، بل قحت هي التي دفعت لترامب من (دم قلب) الشعب السوداني الفقير، 470 مليون من الدولارات عبارة عن تعويضات عن أعمال إرهابية ليس للسودان بها صلة، ولم تستطع المحاكم الأمريكية، قبل مجيء قحت، أن تجد دليلاً واحدًا يثبت ضلوع السودان فيها، فأسقطت جميع الدعاوى التي رُفعت لها بتلك المطالب وحظرت رفع قضايا مماثلة، إلى أن جاء حمدوك وتطوع من نفسه بتغريم السودان تلك المبالغ المهولة، مقابل وعد بائس برفع السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، لم يكن له في الواقع أي أثر ملموس يذكر!..
قحت لم تكن تتمتع بصلات وطيدة مع الإدارة الأمريكية ومطابخ القرار في عهد ترامب والجمهوريين، ولم يكن ما بينها وبين ترامب أكثر مما بينه وبين عبد الفتاح البرهان!..بل كانت (قحت)، في الواقع، صنيعة لمطابخ السياسة العالمية الأوروبية، بالذات (بريطانيا) و(فرنسا)، التي كان يقودها الليبراليون..والآن فإن تقدم (الجلد الجديد الذي لبسته قحت)، موعودة بتبدل الموقف الأوروبي، ففرنسا التي كانت الملاذ الأثير لحمدوك، يبدو بوضوح أنها تتجه للانفكاك من حكم ماكرون وتياره الليبرالي، إلى حكم (آل لوبان) اليمينيين المتطرفين!!.
أما (الصراع السوداني) في خارطة السياسة الأمريكية في العهد الجديد لترامب، الذي سيبدأ مع العام المقبل، فلن يحتل مكاناً مميزاً في سلم الأهميات والأولويات، بحسب قائمة المهام التي أعلنها ترامب نفسه!!.. لن تكون له أهمية إلا بقدر ما يتحقق لأمريكا من مصالح.. سيكون ترامب منشغلاً، إلى حد كبير، داخليًا وخارجياً؛ بتسوية حساباته المتأخرة مع الديمقراطيين الذين استهدفوه بشكل شخصي، وبإصلاح ما أحدثوه من خلل في السياسة الخارجية وفي الاقتصاد الذي حمّلوه مغارم ضخمة في حرب أوكرانيا، وبمحاولة إيجاد تسوية لهذا الصراع، وإيجاد تسوية أخرى تعيد التوازن القديم في الشرق الأوسط إلى نصابه..سواء كان ذلك على صعيد الوضع في غزة، وأمن إسرائيل، أو كان ذلك فيما يتعلق باستعادة (توازن التوتر) في العلاقة مع إيران التي جرتها إدارة بايدن وتهوراتها إلى الانزلاق نحو الصدام مع إسرائيل، وهو ما كانت تحول سياسة (توازن التوتر) دون وقوعه طيلة فترة حكم ترامب الأولى.. ولكن في عهد بايدن والديمقراطيين اختل ذلك التوازن فانقلب التوتر إلى صدام مباشر، وغير مباشر عبر المليشيات الشيعية في العراق ولبنان واليمن!!.
النقاط التي يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام الأمريكي في الشأن السوداني، تكمن في مسألتين، الأولى مسألة مواصلة ما انقطع من مشوار التطبيع مع إسرائيل، وهذه رحلة بعيدة الشقة تحتاج من واشنطن، إذا أرادت مواصلتها، إلى معالجات واسعة، ليس على مستوى السودان فقط، بل على مستوى الإقليم كله، فبعد حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة لم يعد ممكنًا بأي حال الحديث عن تطبيع مرة أخرى في وقت قريب..كما أن الحرب في السودان قد قذفت بهذا الملف إلى البحر!!..
والنقطة الثانية متعلقة بالمصالح الروسية والصينية في السودان، التي وجدت طريقها الممهد في السودان.. فهل سيصنع ترامب هذه القضية بؤرة جديدة للتوتر؟! أم أنه سيحاول إيجاد طريق ثالث يحافظ من خلاله على ودّه القديم مع روسيا التي كانت ظهيراً له في كفاحه للوصول إلى البيت الأبيض في دورته الأولى؟!..
تأمل الحكومة السودانية من ترامب أن يخطو خطوة منتظرة بالنسبة لها، وهي تصنيف مليشيا الدعم السريع جماعة إرهابية، الأمر الذي يستوجب اعتبار الدول الداعمة لها دولاً راعية للإرهاب!!.. لا أتوقع أن يحدث ذلك، وحتى وإن حدث فإن الولايات المتحدة، كما قال كاميرون هدسون لقناة الجزيرة ليست مهتمة بمكافحة الإرهاب في إفريقيا!..
وتتوقع المليشيا و(تقدم) من ترامب أن يدفع باتجاه إجراءات دولية بحظر طيران الجيش السوداني ومنع التسليح عنه تحت ذريعة حماية المدنيين ووقف تدهور الوضع الإنساني!..وذلك أمر بعيد المنال، فالجيش السوداني ما زال بالنسبة للإدارة الأمريكية هو المؤسسة العسكرية الشرعية في السودان.. ولكن، في نهاية الأمر، فإن المصالح الأمريكية فقط، بما فيها أمن إسرائيل، هي التي تحدد ما إذا كانت الحرب في السودان ستستمر استمرار الحرب في السودان أم ستتوقف!!..وهل ستكون شاغلاً من شواغل السياسة الخارجية لأمريكا أم أنها لن تمثل ذلك الشاغل بالقدر الكافي في الوقت الحالي!!.. المصالح فقط!!.. فليست الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنسان الدولي، ولا سقوط الآلاف من الضحايا الأبرياء يمكن أن تكون من محركات السياسة الأمريكية، خاصة في عهود حكم اليمين!!..
إذن فليفهم الجميع أن التعويل على الأطراف الخارجية في حل المشكل السوداني، لا يزيد الأمور إلا تعقيداً، والسودانيون هم أصحاب المصلحة في إنهاء الحرب، وهم وحدهم القادرون على التقرير بشأن إنهائها والطريقة التي ستنتهي بها!!.
أحمد غباشي