السودان في مرمى النار: كيف تُمزق الكراهية النسيج الاجتماعي؟

هذا الصراع ليس حربًا على جغرافيا أو سلطة فقط، بل هو معركة على تعريف السودان ذاته.. كيف يمكن لدولة ظلت لعقود تحاول الحفاظ على وحدتها الهشة أن تصمد أمام خطاب تحريضي يُعمق الشقوق؟

الإجابة تكمن في مزيج من التخطيط الدقيق، والظروف التي تراكمت لعقود، ورغبة بعض الأطراف في رسم خرائط جديدة على أنقاض الوطن.

في عمق الخراب الذي يلتهم السودان اليوم، تقف حرب أبريل/ نيسان 2023 كحدث فارق، فهي ليست مجرد نزاع عسكري، بل هندسة دقيقة لإعادة تشكيل البلاد.

في بلد عانى طويلًا من جراح الهُوية والانقسام، جاءت هذه الحرب كالسهم الأخير في قلب أمة ظلت تصارع أقدارها. لكنْ، خلف دوي المدافع وصخب الدمار، هناك قصة أكثر تعقيدًا تُروى، قصة وطن يتفتت ليس فقط تحت ضغط السلاح، بل عبر أداة أكثر خبثًا وفاعلية: “خطاب الكراهية”.

تفكيك السودان من الداخل: لعبة يتقنها اللاعبون الجدد

حين تنظر إلى المشهد السوداني من بعيد، يبدو كفوضى عارمة لا أفق لها، لكنْ على الأرض ثمة خيوط دقيقة تُنسج بعناية.. قوات الدعم السريع، تلك المليشيا التي خرجت من الهامش، فهمت مبكرًا أن تدمير الخرطوم أو السيطرة على دارفور، لن يكفي ذلك لتغيير قواعد اللعبة، لذلك لجأت إلى ما هو أكثر تأثيرًا واستدامة: تدمير الثقة بين السودانيين أنفسهم.

دارفور: مختبر الفوضى المنظمة

في غرب السودان، دارفور ليست مجرد منطقة حرب؛ إنها نموذج مصغر لما يمكن أن يصبح عليه السودان بأسره. هنا، لا تُطلق البنادق عشوائيًّا، بل تُستخدم كجزء من عملية منظمة تهدف إلى إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والديمغرافي.. ما يبدو كعنف قبلي عشوائي هو في الواقع حملة ممنهجة لخلق واقع جديد.

تخيل منطقة يُجبر سكانها على الهروب، تُدمر قراهم، وتُستخدم الجرائم كأداة لترسيخ رسائل الخوف والكراهية. هذا ليس صراعًا على الأرض فقط، بل إعادة صياغة لدارفور كمنطقة مقطوعة عن جذورها التاريخية والاجتماعية، في خطوة تجعل العودة إلى الماضي أمرًا مستحيلًا.

الخرطوم: العاصمة كساحة للإفلاس الرمزي

أما الخرطوم، فهي أكثر من مجرد مركز للصراع، إنها رمز للسودان الذي عرفه الناس. لكن هذا الرمز يتعرض للتفكيك اليوم بشكل متعمد؛ والقتال هناك ليس فقط على مواقع إستراتيجية، بل هو محاولة لتحويل العاصمة إلى نقطة انهيار.. الخرطوم التي كانت تجمع التنوع السوداني، تتحول الآن إلى مسرح للفوضى والانقسام.

الكراهية: الرصاصة التي لا تخطئ

هنا تأتي أخطر أسلحة هذه الحرب.. الكلمات!. إذا كانت الحرب الكلاسيكية تُخاض بالبنادق والدبابات، فإن حرب السودان الحالية تعتمد بشكل أساسي على خطاب الكراهية كوسيلة لإعادة تشكيل العقول قبل الأرض.

قوات الدعم السريع لم تكتفِ بالهجمات الميدانية؛ بل أطلقت حملة تحريضية تُغرق وسائل التواصل الاجتماعي والشوارع بخطابات تعمق الانقسامات القبلية والعرقية. ما بدأ كأداة للتحفيز في ساحة المعركة تحول إلى أيديولوجيا تهدف إلى نسف أي فكرة عن التعايش.

الكلمات التي تُقال اليوم ليست مجرد شعارات؛ إنها خناجر تُغرس في نسيج الأمة، والجار الذي كان يُلقي التحية على جاره بالأمس، بات يرى فيه تهديدًا وجوديًا اليوم.. هذه ليست مجرد عواقب عابرة للحرب، بل خطة لتفكيك السودان كفكرة قبل أن يكون كيانًا.

من المستفيد؟

السؤال الذي يجب أن يُطرح هنا ليس “كيف وصلنا إلى هنا؟”، بل “من يربح من هذا الخراب؟”..

تقسيم السودان ليس مجرد احتمال ناتج عن الحرب، بل يبدو كهدف خفي يدعمه لاعبون داخل البلاد وخارجها. فداخليًا، هناك قوى ترى أن وجود السودان كدولة موحدة هو تهديد لمصالحها، وكلما زادت الفوضى زادت فرص هذه القوى لتعزيز نفوذها على حساب فكرة السودان كدولة وطنية.

وخارجيًا، السودان ليس فقط بلدًا أفريقيًّا يعيش أزمة داخلية، إنه موقع إستراتيجي غني بالموارد. وبالنسبة للقوى الدولية والإقليمية، تقسيم السودان إلى كيانات صغيرة هو فرصة للسيطرة على هذه الموارد دون عناء التعامل مع دولة قوية.

هل التقسيم أصبح قدرًا؟

اليوم، يبدو أن التقسيم ليس فقط نتيجة محتملة، بل نتيجة يجري العمل على تحقيقها.. دارفور تتفكك تحت وطأة التطهير العرقي، والشرق يئن تحت وطأة التهميش، والخرطوم تُحول إلى رمز للانهيار بدلًا من الوحدة.

الأخطر من ذلك أن خطاب الكراهية جعل من فكرة السودان الموحد أمرًا صعب التحقق حتى لو توقفت الحرب غدًا؛ إذ كيف يمكن لشعب تلوث بالشك والكراهية أن يعيد بناء الثقة؟

سؤال المستقبل: من يكتب النهاية؟

ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد حرب أهلية، بل عملية جراحية خطيرة تُجرى على جسد وطن بلا مخدر؛ والنتيجة لن تكون مجرد منتصر ومهزوم، بل خريطة جديدة تُرسم على أشلاء دولة كانت يومًا قلب أفريقيا النابض.

السودان في لحظته الراهنة أشبه برواية مفتوحة، لكن القلم ليس في يد السودانيين وحدهم. اللاعبون الخفيون، محليًا وإقليميًا ودوليًا، هم من يكتبون نهايات الفصول. والسؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه الآن: هل سنكون مجرد شهود على هذه النهاية، أم أطرافًا فاعلة في صياغتها؟

بين الخراب الذي نراه، والخطط التي لا تُقال، يبقى شيء واحد مؤكد: السودان اليوم ليس كما كان، والغد قد يحمل وطنًا جديدًا لا يشبه شيئًا مما نعرفه.

كتب : أيمن أحمد المصطفى


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.