السودانيون في دول الشتات … أسواق ومقاهٍ تعيد رسم الوطن

على الرغم من الشتات القسري الذي فرضته الحرب، تمكن السودانيون من حمل ذاكرتهم الجماعية وهوية وطنهم المتشظي، تاركين كل شيء آخر خلفهم. في العواصم والمدن الأفريقية التي طردتهم إليها الحرب، حمل اللاجئون والمهاجرون ملامحهم الاجتماعية والثقافية، وأصبحت حيواتهم جسورًا تربط ماضيهم في السودان بحاضرهم في عواصم الشتات، في قصة نجاة تُكتب بروائح البخور ونكهات الأقاشي وألحان الغناء السوداني التي تصدح في الأسواق والمقاهي.
محلات السودانيين ومقاهيهم في دول الشتات هي مقاومة من نوع آخر، تعيد رسم وطن يحنّون إليه، بينما يقوم التوب السوداني والجلابية مقام جواز السفر الذي يعرف السودانيين على بعضهم
محلات السودانيين ومقاهيهم في دول الشتات هي مقاومة من نوع آخر، تعيد رسم وطن يحنّون إليه، بينما يقوم التوب السوداني والجلابية مقام جواز السفر الذي يعرف السودانيين على بعضهم، كأنهم يلتزمون بوصايا الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “احمل بلادك أنّى ذهبت وكُن نرجسيّا إذا لزم الأمر”، وما بين السوداني والفلسطيني ما هو أعمق من سيرة الشتات.
شرق أفريقيا
في جادة نياروتراما الراقية بالعاصمة الرواندية كيغالي، ستفاجئك لافتة صفراء مكتوب عليها بالأحمر القاني “إيتانينا”، وهي كلمة بلغة البداويت السودانية، تحمل معاني التحية. اللافتة لصالون حلاقة بنكهة سودانية، حيث يفضل الشباب من الذين دفعتهم الحرب إلى الهجرة إلى رواندا، أن يتحصلوا على تصفيفات الشعر التي عهدوها في بلادهم، كما يتبادلون أطراف الحديث مع الحلاق الشاب “التوم”، سهل المعشر بروحه المرحة.
لو تحركت بالبودا بودا خمس دقائق من صالون “إيتانينا” ستصل إلى سوق كيسيمنت الذي تركزت فيه المحلات السودانية. هنا ستجد الفول والجبنة وحتى الكبكبي المسحون لصنع الطعمية. في محل “عطية” ستجد كل البهارات السودانية “الغميسة”، ولن يبخل عليك ببعض التسالي، وربما تمد يدك لتتناول من شوالات البلح الذي يؤكد لك أنه وارد الولاية الشمالية.
في كيسمنت الجميلة في كيغالي، رغم الشتات، تجد السودانيين يرتدون “جلاليبهم” ويتبادلون “الونسة” حول فناجيل القهوة
في كيسمنت الجميلة في كيغالي، رغم الشتات، تجد السودانيين يرتدون “جلاليبهم” ويتبادلون “الونسة” حول فناجيل القهوة. تشبه هذه المنطقة بحيويتها ورُقيها “الخرطوم اتنين” أو حتى شارع أوماك في العاصمة الخرطوم التي دمرتها الحرب. لو جئت هنا عقب صلاة الجمعة، ستحيرك الجموع التي في المقاهي كأنها العطلة الرسمية في رواندا. السودانيون يحملون بلادهم معهم، حتى بمواقيتها، إلى دول الشتات.
على مواقع التواصل الاجتماعي، تنتشر الدعاية من السيدات اللائي امتهن بيع المنتجات السودانية في دول الشتات. البخور والعطور السودانية المحلية وغيرها من المنتجات الخاصة صارت تجارة رائجة تجد حظها. “الترا سودان” تحدث عبر الهاتف إلى الشابة تهاني محمد التي تبيع البخور ومعداته في العاصمة الأوغندية كمبالا. تقول هذه الشابة إنها قدمت عبر جنوب السودان إلى أوغندا فرارًا من الحرب، وعندما لم تجد وظيفة لجأت إلى تصنيع وبيع البخور البلدي. “أسوّق منتجاتي عبر منصات التواصل، ويقبل عليها الجميع حتى شباب الجامعات”. في كمبالا جالية ضخمة من الطلاب الذين دفعتهم ظروف الحرب إلى إكمال دراستهم بهذه الدولة المضيافة.
شرق أفريقيا جميعها صبغتها المحلات السودانية، حتى في كينيا انتشرت المطاعم السودانية، ربما أشهرها مطعم جايطة الذي تمكن من جعل المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان، توم بيرييلو، من المسوقين له، بترديده لكلمة جايطة وهو يتناول الفول والطعمية بالنكهة السودانية. اختار أصحاب مطعم “جايطة” هذا الاسم ربما للدلالة على الأوضاع التي يمر بها الشباب، والظروف التي رمتهم فيها الحرب. حتى هذا المحل يستخدم مواقع التواصل بكثافة، ويمكنك سماح موسيقى “الزنق” وهي تنطلق من مكبرات الصوت في مقاطعهم الدعائية.
إثيوبيا
مقاطع الممثل السوداني الشاب وراق عمر عثمان الشهير بـ”حسن تسريحة” من جادة بولي في قلب أديس أبابا تنبئك بأوضاع السودانيين في الجارة إثيوبيا. يبيع وراق الباسطة والبسبوسة الغارقة في العسل بعد أن دفعته الحرب للهجرة من السودان. شكّل السودانيون جالية كبيرة في أديس أبابا حتى من قبل الحرب، وهاهم الآن تتزايد أعدادهم ومحلاتهم.
في المطعم السوداني في بولي يمكنك أن تأكل الشية وتُحلي بالباسطة ومن ثم تبتاع الصعوط إن كنت من مدمني النسخة السودانية من النيكوتين
في المطعم السوداني في بولي يمكنك أن تأكل الشية وتُحلي بالباسطة ومن ثم تبتاع الصعوط إن كنت من مدمني النسخة السودانية من النيكوتين. كيس التمباك في بولي لا يتجاوز سعره دولارين، ذلك على الرغم من أن صاحب المحل يُصر على أن جميع مواده الخام تورد من السودان.
هنا أيضًا البخور يعطر المحلات، والجلاليب والتياب أيضًا. دائمًا ما تلفت الثياب السودانية أصحاب الأرض، ودونها لا يمكنك تمييز السوداني عن الإثيوبي لتشابه الملامح والسحنات، وهذه نعمة نادرة في المناطق الخطرة من دول الشتات، حيث يمكنك الاندماج في السكان المحليين فقط بارتداء البنطلون والقميص، أو حتى الزوريا البيضاء.
ملامح السودان
السودانيون في دول الشتات لا يكتفون بالنجاة وسط مجتمعاتهم الجديدة، بل يحملون معهم تفاصيل حياتهم اليومية ليخلقوا زوايا خاصة بهم، وأسواقًا تحاكي بلادهم، متمسكين بملامح السودان. من صالون الحلاقة في كيغالي إلى مطاعم الفول والطعمية في نيروبي، ومن بائعات البخور في كمبالا إلى تجار الباسطة في أديس، تبرز سمات مجتمع يقاوم التلاشي رغم تقلبات المصير، مجتمع يرتدي الجلابية والتوب، ويشرب القهوة بالزنجبيل.
لكن، بعيدًا عن هذه الصورة الزاهية، يبقى الشتات قاسيًا، يشبه في ذلك أيضًا ملامح السودان. التحديات اليومية وصعوبات العيش والبحث عن الاستقرار، كلها عوامل تفرض نفسها على هؤلاء المهاجرين واللاجئين. فرغم صمودهم في وجه الغربة، تظل أعينهم متجهة نحو الوطن، تحلم بعودة قريبة أو على الأقل، بإبقاء جذورهم ممتدة إليه، عبر الروائح والأصوات والمذاقات التي لا تزال تحفظهم من الذوبان الكامل في مجتمعاتهم الجديدة.
سودان الترا