من حكايات حزام الجوع في جنوب الخرطوم

من حكايات حزام الجوع في جنوب الخرطوم

ثمة وجوه عديدة كالحة لمأساة الحرب في السودان، التي هي في طريقها لتدخل عامها الثالث بعد أشهر، من أسوأ اللحظات التي يمكن أن تعيشها عندما تجد جموعًا من الأطفال هائمين على وجوههم، ينتظرون ولو لقمة من حجر ينسون بها كركرة بطونهم.

والأكثر إيلامًا أن تعلم أن معظم أولئك الأطفال لا راعي لهم على وجه الأرض، فمنهم من فقد والده في هذه الحرب العبوس، ومن أولئك الأطفال من ضل سبيله ووجد نفسه فجأة في حي آخر ولا يعرف أين ذووه.

كما أن من بين أولئك الزغب من لا يتكلم أصلًا ولا يعرف حتى اسمه.. وعندها تسير المأساة بقدميها، وترقص على أشلاء الزمن الغابر، وأشلاء آخرين كانوا بالأمس بيننا لكن أرواحهم ارتقت إلى بارئها.

نحن في جنوب الخرطوم، وبعدما فقدنا شبكة التواصل والكهرباء، فقدنا شريان الحياة الرئيس وهو الماء، وهنا تضاعفت المعاناة، كما اعتدنا يوميًا أن نسمع الصراخ المتقطع والنحيب، وعند استجلاء الأمر، تأتيك الإجابة بأن فلانًا قد انتقل إلى الرفيق الأعلى.

لقد جاء في محكم التنزيل أن بني إسرائيل طلبوا من سيدنا موسى (عليه السلام) بأن يسأل لهم ربه، وقالوا لن نصبر على طعام واحد.. لكننا في منطقة جنوب الحزام كنا سنصبر على ربع طعام إذا ما توفر ذلك الطعام، بغض النظر عن ماهيته.

ورغم الفقر المدقع والحال البئيس، فإن هناك بعض الخيّرين (أثابهم الله الفردوس الأعلى) حاولوا جاهدين أن يوفروا ولو وجبة (عبارة عن بليلة من حبوب العدسية) في جامع الحي، وخاصة يوم الجمعة، ولكن تلك البليلة لو قُسمت على الأطفال الجوعى عندما يأتون بمواعينهم للحصول عليها لما كفتهم، وعندها يختلط نحيبهم بصوت إمام الجامع أثناء الخطبة، ثم يختلط الأمر على المصلين، وتصبح دعواهم جهرًا “ألا أن نصر الله قريب”.

وبالرغم من وجود عدد من الأسواق، ووجود بعض المواد المنقذة للحياة في منطقة جنوب الحزام، فإن الحصول عليها قد يكلف المرء حياته، وعندما يقصد أحدنا الذهاب إلى السوق عليه أولًا أن يودع أسرته؛ فربما لا يعود مرة أخرى، إذ من السهل أن يصيبه طلق ناري طائش أو مقصود، وإذا سلم من هذا النوع قد لا يسلم من السلب جهرة، فيما يسمى بالشفشة، ورغم موسيقى حروف الكلمة فإنها نتنة، وهي بمعنى السلب واقتلاع مالك، أو ما حصلت عليه من السوق، بقوة السلاح والتهديد والإهانة والشتم والزجر.

بالإضافة لذلك، وحتى لو أكرمك الله ولم تقابل من يقتلع منك ما تحمله، وقمت بشراء ما تريد من مواد غذائية، فإنك عندما تصل إلى البيت وتحاول الاطلاع على تاريخ الإنتاج ومدة الصلاحية قد تصدم، وتجد أن تلك المواد قد مر عليها حولان بعد تاريخ انتهائها!

ولكن لا بد لك أن تتناولها مرغمًا، وإلا فمصيرك الفناء والهلاك. وهناك صدمة أخرى قد تصيبك قبل شراء ما تحتاج من صاحب المتجر، إذا ما قال لك إن النقود التي مددتها له غير مبرِّئة للذمة.

وكل ما تقدم قصة، والحصول على ماء الشرب قصة أخرى؛ فلقد بلغ سعر برميل الماء عشرة آلاف جنيه، وليت المياه كانت نقية علاوة على طعمها الآسن.. وطبعًا، توجد بعض الآبار المالحة داخل الحي، وفيها مادة لزجة، ولا تصلح حتى لغسل الأواني المنزلية.

أما البحث على غاز الطهي، فكمن يبحث عن رفاة نملة في بحر لجي، وبالتالي لجأ جميع المواطنين لمنافسة أجدادنا القدماء في إيقاد النيران بعيدان الحطب، وقد تسبب هذا في اقتحام اللصوص للمنازل الخالية من أصحابها، واقتلاع الخزانات وكراسي الجلوس وكل الأثاث، ومن ثم تكسيره وربطه وحزمه، وبيعه نهارًا جهارًا.

ومع كل هذا لا يوجد سعر ثابت لأي نوع من السلع، وكأن أصحاب السوق يعلمون ظروف الناس؛ فإذا كنت تحمل مبلغًا محترمًا فستجد فجأة ارتفاعًا في الأسعار، وإذا لم تكن تملك نقودًا فستسمع بأن سعر السلعة التي تريد الحصول عليها قد بلغ الحضيض.

ولعدم وجود شبكات اتصال، أصبحت محلات الواي فاي الفضائي، المعروف باسم ستار لينك، ملاذًا لكل المواطنين الذين منعتهم ظروفهم من مغادرة الخرطوم، وفي كل محلات الواي فاي تسمع صراخًا ونحيبًا، يدلّان على عزاء وفراق مُر، أما إذا رأيت شخصًا مبتسمًا في الواي فاي، فلا ريب أنه حصل على إشعار أخضر (تحويل مالي) من أهله أو صديقه في الخارج أو المناطق التي لم تشهد حربًا.

علمًا أن هذا المبتسم قد يحصل له ما لا يحمد عقباه؛ وذلك لوجود بعض المتفلتين حول محلات الواي فاي، حيث يقومون في الغالب بتتبع صاحب الحوالة لسرقة المبلغ منه أو إصابته بطلق ناري مباشرة.

عمومًا، لم نزل في الخرطوم نعيش تحت خط الفقر، وتجاوزنا سقف أحلام السلم والأمن، وأصبح أقصى حلمنا العثور على لقمة ولو من لحم الخنزير المحرم أصلًا، ولكن بفقه الضرورة (من اضطر غير باغ فلا إثم عليه)، فقد يكون تناوله حلالًا. كذلك، لا تحلم بالحصول على قطعة خبز (ناشفة) ولو داخل الفرن؛ فأربع خبزات بلغ سعرهن ألف جنيه.

وقبل أيام تنفس المواطنون الصعداء، عندما قام بعض المتطوعين من أبناء الحي بتسجيل وحصر الأسر التي لم تزل عالقة؛ والسبب -كما قيل- هو تمكن الأمم المتحدة من الحصول على إذن للوصول إلى مناطقنا، وبالتالي إمكانية توزيع مواد إغاثية، ولكن تلك الأحلام لم تصمد ولا لليلة واحدة، وانهارت كما لو أنها جرف هار، وما زلنا نلتفت يمنة ويسرة ننتظر وصول شاحنة إغاثة، ولكن أكثرنا رشدًا من رفع يديه إلى السماء، ينتظر رحمة الواحد الأحد بأن يستتب الأمن، وتعود الحياة إلى طبيعتها.

عبد الحي مركوكة



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.