ردًا على مقال الدكتور ميرغني محمود بشأن فصل الجسم الرقابي عن الخدمي في قطاع الطيران المدني

ردًا على مقال الدكتور ميرغني محمود بشأن فصل الجسم الرقابي عن الخدمي في قطاع الطيران المدني
يهمنا أولاً أن نثمن إثارته لهذا الموضوع المحوري، مؤكدين ضرورة تناول النقاشات المهنية بروح موضوعية بنّاءة، بعيدًا عن الإسفاف أو الإشارات السلبية التي تُضعف من قيمة الطرح وتُخرج النقاش من سياقه التقني والمهني.
أولاً: الفصل الوظيفي وفقًا للإيكاو
توصي منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) بما يُعرف بـ”الفصل الوظيفي” (Functional Separation) أو ما يسمى أحيانًا بـ”التفكيك المؤسسي” (Institutional Fragmentation) بين الهيئات الرقابية والخدمية، وذلك كأداة لتعزيز الشفافية وتجنب تضارب المصالح في منظومة الطيران المدني.
وتؤكد الإيكاو في دليلها المعتمد “Safety Oversight Manual – Part B (Doc 9734B)” أن هذا الفصل لا يشترط أن يتم من خلال إنشاء مؤسسات منفصلة عضويًا، بل يمكن تحقيقه داخل كيان مؤسسي واحد، بشرط ضمان استقلالية الوظيفة الرقابية عن التشغيلية. أي أن استقلال القرار الرقابي هو جوهر الفصل، وليس الشكل التنظيمي فحسب.
ثانيًا: التجربة السودانية – فصل عضوي سابق لأوانه
شهد السودان خلال السنوات الماضية تطبيق فصل عضوي كامل بين الجهات الرقابية والخدمية في قطاع الطيران، من خلال إنشاء مؤسسات مستقلة لكل من الجانبين. غير أن هذا الانتقال تم دون تمهيد كافٍ، لا على مستوى الموارد البشرية المؤهلة، ولا على صعيد البنية التشريعية والتنظيمية، ما أدى إلى عدد من الإشكاليات:
• تشتيت الصلاحيات وغياب التنسيق الفعّال بين الكيانات.
• ضعف الأداء الرقابي بسبب نقص الكفاءات الفنية.
• تعقيد الإجراءات بدلًا من تبسيطها، في ظل غياب نظام إدارة سلامة مكتمل النضج (SMS).
تُظهر هذه التجربة أن الفصل العضوي دون توفير متطلبات نجاحه قد يؤدي إلى نتائج عكسية، ويقوض فعالية السلامة الجوية بدلًا من تعزيزها.
ثالثًا: مرونة الإيكاو في تطبيق المعايير
تدرك الإيكاو تباين قدرات الدول المتعاقدة، وتسمح بما يُعرف بـ”الانحراف عن المعايير” (Departure from Standards)، بشرط الإبلاغ عنه وتقديم خطة زمنية لمعالجة الفجوات. ويتيح هذا الإجراء انتهاج سياسات تدريجية تتماشى مع خصوصيات كل دولة وظروفها المؤسسية.
وفي الحالة السودانية، كان بالإمكان اعتماد نموذج تدريجي للفصل الوظيفي، كما هو مطبق في بعض الدول مثل مصر وجنوب أفريقيا، حيث جرى العمل على تعزيز استقلالية الوظائف الرقابية داخل الهيئات القائمة، مع البناء التدريجي للقدرات المؤسسية، عوضًا عن الانقسام الهيكلي المفاجئ.
رابعًا: توصيات مقترحة
• اعتماد الفصل الوظيفي كخطوة أولى، مع تركيز الجهود على تحقيق استقلالية الوظائف الرقابية داخل الكيان القائم دون استعجال إنشاء كيانات مستقلة جديدة.
• تعزيز القدرات البشرية والمؤسسية من خلال برامج تدريب وتأهيل فني وهيكلي مستمرة.
• التدرج في تطبيق المعايير الدولية عبر خطة زمنية واضحة تأخذ في الاعتبار الواقع الوطني.
• ضمان التنسيق المؤسسي الفعّال بين الجهات الخدمية والرقابية، لتفادي التضارب وضمان التكامل.
خامسًا: حول الصراع على الموارد ومسألة أمن الطيران
فيما يتعلق برسوم عبور الأجواء، فقد نصت وثائق الإيكاو على أن الهدف منها هو تطوير البنية التحتية للطيران، وليس مجرد تحصيل مالي، حيث أكدت المنظمة أن توجيه هذه الموارد نحو دعم نظم الملاحة الجوية والرقابة والسلامة يُعد من أهم المبادئ في فلسفة فرض الرسوم.
أما في ما يخص انتقال أمن الطيران إلى سلطة حكومية، فذلك يتماشى مع القرار 2309 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والذي شدد على أن أمن الطيران المدني جزء لا يتجزأ من الأمن القومي للدول المتعاقدة. كما يدعم الملحق 17 من اتفاقية شيكاغو هذا التوجه، بوصف أمن الطيران وظيفة سيادية ذات طابع تنفيذي، ما يطرح إشكالات قانونية ومؤسسية في حال ارتباطه بهيئات تجارية تخضع لقوانين الشركات، كما هو الحال في بعض النماذج المعتمدة بالسودان سابقًا.
خاتمة
نكرر شكرنا للدكتور ميرغني على فتح باب هذا النقاش الهام، وندعو إلى حوار موسع بين المختصين والمهنيين وأصحاب المصلحة، يستند إلى وثائق الإيكاو والممارسات الدولية الرشيدة، بما يعزز سلامة الطيران المدني في السودان ويضمن الامتثال الفعّال للمعايير العالمية.
المراجع:
• ICAO Doc 9734B – Safety Oversight Manual, Part B
• Annex 19 – Safety Management
• Annex 17 – Security
• ICAO – Standards and Recommended Practices (SARPs)
كتب:إبراهيم عدلان