الخرطوم إذ تنهض من رمادها

الخرطوم إذ تنهض من رمادها
حال الخرطوم ليس أسوأ من حال لندن عندما سكتت أسراب القصف النازية، كما أنها ليست أكثر تهشيماً من ستالينغراد بعدما انطفأت أشرس معركة في التاريخ ضراوةً، أو أعمق جراحاً من برلين لمّا جفّت واحدةٌ من أشدّ المعارك دمويةً، كما أنها ليست أكثر خراباً من بيروت بعدما انقشعت حروب الفرقاء الأعداء والحمم الهمجية الإسرائيلية، فالخرطوم، رغم دمار الحرب الرعناء، قادرةٌ كذلك على كنس الأنقاض وتضميد الجراحات والنهوض في عملية إعادة إعمار تخلّق معجزةً سودانيةً، ربّما على النمط الألماني أو الياباني، لكن تلك مهمة تستلزم توفر نهج فلسفي يوفّق بين الفهم الوطني الإيكولوجي في جبهات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والحداثة، كما تتطلّب أطراً بفيض من الوعي والانتماء الوطني، مسلّحةً بعتاد من الإرادة الصلبة والتفاني في العمل العام من أجل الصالح العام.
انتشار الجيش وانكسار “الجنجويد” لم يخرجا الوطن من حالة الحرب. بؤر النار لا تزال تتأجّج في جنبات البلد. الاقتتال دخل مرحلة الكرّ والفرّ والجبهات المتنقّلة. الأسلحة تجاوزت فوّهات البنادق والمدافع الأرضية إلى الأقمار الصناعية. أفواج العائدين إلى دورهم لم تثبّت اليقين بالسلام لديهم أو لغير العائدين. بنى الخدمات الأساسية (بما في ذلك الأمن) تتطلّب استنفاراً وطنياً بغية استرداد فعاليتها. ليست المليشيا وحدها تعايش أشكالاً من الفوضى، بل الوضع العام بأسره بات أسيراً لسيولة من الفوضى. الانتقال إلى تثبيت السلم يتطلّب ذهنية تخترق مرحلتَي الحرب والفوضى معاً. الواقع لا يزال يدحض فرص الرهان على تحقيق نصر وشيك. التوغل في الفوضى الراهنة يرفع حجم الخسارات في كلّ الجبهات، ويطيل معاناة الشعب، ويعطّل حركة الاقتصاد.
أصاب الموات المقاهي، وأصاب الظلام الواجهات المضيئة، ونال الغبار من الأرصفة الأنيقة
أقصر الطرق لاحتواء سيولة الفوضى تمرّ عبر أقنية الحوار، فالتفاوض ضرب من إدارة العراك. جبهات الاقتتال الساخنة كلّها في اتساع الأرض تتزامن مع معارك على طاولات الحوار، ومثل ما هناك أعداء في خطوط المواجهة، هناك خصوم وحلفاء وراء خطوط النار. لذلك، ابتدع الخبراء ما بات يعرف في أدبيات السياسة بالحوار غير المباشر، الغاية منه تجاوز دور الوسيط التقليدي. معركة توريت الأكثر شراسةً احتدمت بينما كان التفاوض بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية يقطع شوطاً بعيداً. معارك التفاوض الجارية حالياً في الجبهات الساخنة في العالم تدار بأسلحة المصالح وفق موازين القوى، وهنا يأتي دور الكوادر الوطنية المؤهَّلة لخوض المعركة مع القوى المؤثّرة في ظلّ رصيدنا الوافر في عملية إعادة البناء وشهوات الآخرين النهمة للاستثمار.
لا تحتاج الخرطوم إلى ترميم أو إعادة بناء، بقدر ما تتطلّب إعادة تخطيط حتى تصبح إحدى مدن المستقبل. تلك عملية ترتكز في البدء على استثمار الإمكانات الهائلة المتاحة للمدينة. ثمّة عوائق تبرز حتماً على درب الإنجاز، لكن في وسع القدرات الوطنية تجاوزها دونما عناء، مثل ما تتطلّب المهمّة وفرةً في الأرصدة المالية، فإنها تستدعي أخيلة تستعين بها في الإبداع والاستنفار. لدى الشعب ذرّية طيبة من المبدعين المصقولين بالتجارب الثريّة في التخطيط والهندسة والمعمار والسياحة والتنشئة الحضرية والتمويل والتسويق، لديه كذلك مستودع زاخر من الشباب يموج بالحماسة والتجرّد والاستعداد للبذل والعطاء من أجل الخير والتقدّم، فهم ظلّوا يردّدون: “حنبنيهو… الي بنحلم بيهو يوماتي… وطن شامخ…وطن خير ديمقراطي”. هذا حلم لا ينحصر تحقيقه في إعادة إعمار الخرطوم فقط، بل يتّسع بالضرورة لجهة تحويل التنمية من اقتصاد زراعي ريعي إلى اقتصاد صناعي حداثي.
ينبغي لعلاقة الخرطوم بالنهر أن تشغل حيّزاً حيوياً على طاولات التحديث
فقدت الخرطوم ألقاً (حتى قبل الحرب) تتوهّمه أجيال شابة ضرباً من الهذيان في حكايات الكبار عن سحرها العتيق في زمنها الجميل. أصاب الموات المقاهي، وأصاب الظلام الواجهات المضيئة، ونال الغبار من الأرصفة الأنيقة. المدينة المزدهرة باضطراد نهشها الذبول في كنف ظلمة “الإنقاذ”، حتى البنايات المستحدثة في عهدها “كسا تطاولها في الأفق الشغب”، وفق توصيف أستاذنا الراحل منصور خالد. لعلّها فرصة إجبارية كي تلاحق الخرطوم إيقاع العصر عاصمةً يستردّ وسطها حراك النهار الدؤوب، وليلها نبض الأنس والفن والثقافة والسهر. لا ينبغي للفاجعة المطبقة على مشهد العاصمة خراباً مسّ قدرتنا على النهوض العجول واسترداد دورة الحياة فيها على نحو أكثر حيوية وثقةً وطمأنينةً، ترمّز وحدة النسيج السوداني في أحيائها السكنية وأسواقها.
يتجاوز مشروع الإعمار حتماً عمليات الترميم وإعادة البناء إلى استثمار إمكانات المدينة المتاحة وتفجير طاقاتها المحتملة على أفضل نحو. علاقة النيلَين بالمكنون الحضري تستوجب تكريس الحصيلة المعرفية حداثياً، فالمدينة المتثائبة بين النهرَين تراوح بين مكابدة الظمأ والغرق في الوحل، فلا هي ريّانة ولاهي نظيفة والماء حولها ينساب. أفضل ما في هذه العلاقة السخية العطاء بين النهر والبر ينحصر حالياً في بضعة جسور عابرة عاطلة من أبجديات التشكيل المعماري المعاصر، وفي مسافة ضيّقة مجتزأة في ضفة واحدة توحي بانطباع المحطّات الخلوية. التحلّق حول بائعات الشاي مظهر معاكس للمساهمة في إثراء حياة العواصم وشبابها، وما تبقّى من الضفاف لا يزال على فطرته الريفية البكر. لهذا ينبغي لعلاقة المدينة بالنهر أن تشغل حيّزاً حيوياً على طاولات التحديث. ربّما تفيد تجربة سوليدير بيروت في إعمار وسط العاصمة اللبنانية باستنباط آلية مشابهة. هناك مروحة واسعة من منظّمات المجتمع المدني تنبغي مساهمتها، كاتحاد المهندسين، برؤى تساهم في الإبداع والإقناع في التخطيط والتنفيذ.
عمر العمر