مدى انقضاء عقود ايجار المباني بسبب عدم الوفاء بالالتزامات التعاقدية خلال فترة الحرب

دى انقضاء عقود ايجار المباني بسبب عدم الوفاء بالالتزامات التعاقدية خلال فترة الحرب
أثّر نشوب الحرب في السودان على التزامات أطراف علاقات عقود الإيجار وعلى قدرتهم على الوفاء بها، بما في ذلك قدرة المستأجرين على سداد الأجرة، وقدرة المؤجرين على تمكينهم من الانتفاع بالعقارات المستأجرة، خاصة في المناطق التي هاجر أطرافها طلباً للأمان في أماكن النزوح أو الهجرة المختلفة. وقد تتعقد هذه المشكلة بعد عودة آلاف المستأجرين ومحاولتهم استخدام العقارات المستأجرة مرة أخرى، وربما يثير ذلك جوانب قانونية تتعلق بمدى انفساخ عقد الإيجار أو أحقية المستأجرين في الاستفادة مرة أخرى من العقارات المستأجرة.
من الواضح أنه لم يكن يدور بخلد المشرّع مثل هذه المشكلة، ومن ثم فلا توجد نصوص كافية في تشريعات الإيجار، بما في ذلك قانون إيجار المباني لسنة 1991 أو قانون المعاملات المدنية لسنة 1984، تفصل في هذه الحالات مراعيةً الظروف التي تكتنف أطراف عقد الإيجار بصورة واضحة وحاسمة. وكان يتعين أن يصدر تشريع يضع معايير للفصل في كل الحالات التعاقدية، بما في ذلك عقود الإيجار، وعقود العمل، والبيوع غير المكتملة، وغيرها من الحالات لمعالجة آثار الحرب على العلاقات التعاقدية.
بالنظر للتشريعات المنظمة، فمن الضروري الإشارة إلى أن صدور قانون إيجار المباني لسنة 1991 لا يؤدي إلى استبعاد تطبيق قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 على معاملات إيجار المباني، وإنما يظل قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 قانوناً عاماً مكملاً، تطبق قواعده في كل الحالات التي لم يرد فيها نص في قانون إيجار المباني لسنة 1991. والدليل على ذلك أن قانون إيجار المباني لسنة 1991 عند صدوره ألغى مادة واحدة فقط من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984، وهي المادة 371 (7)، والتي كانت تتعلق بمدة عقد الإيجار وتتعارض مع القاعدة التي اعتمدها قانون إيجار المباني حول تحوّل الإيجار العقدي إلى إيجار حكمي لمدة سبع (7) سنوات بعد انقضاء الفترة العقدية. ومن ثم، فكل أحكام قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 ذات العلاقة تعد بدورها قواعد عامة تحكم علاقة الإيجار، إضافة إلى قانون إيجار المباني لسنة 1991 باعتباره قانوناً خاصاً. وويمكن تلخيص القواعد المنظمة لعلاقات الإيجار ذات العلاقة بالحرب على النحو التالي:
أولاً: حالة هلاك العقار محل الإيجار
لا أعتقد أن هناك نزاعاً يمكن أن ينشأ بسبب استمرار عقد الإيجار في حالة هلاك العقار محل الإيجار، ومن ثم انقضاء التزامات الأطراف. وهذا ما أوضحته المادة 130 من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 بصورة واضحة، حيث ذكرت: “في العقود الملزمة للجانبين إذا انقضى الالتزام لاستحالة تنفيذه بسبب أجنبي لا يد للمدين فيه، انقضت معه الالتزامات المقابلة له، وينفسخ العقد من تلقاء ذاته”.
ولا تتطلب الاستحالة في هذه الحالة صدور حكم قضائي بها، فمجرد هلاك العقار المستأجر باعتباره محل العقد يؤدي تلقائياً إلى انفساخ عقد الإيجار.
ثانياً: بقاء العقار محل الإيجار
بينت المادة 318 (ب) من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 حالة فسخ العقد من قبل المستأجر إذا “حدث ما يمنع تنفيذ العقد”، وهو نص واضح الدلالة على حق المستأجر في طلب فسخ العقد بسبب قد يتضمن حالة الحرب التي تمنع تنفيذه.
ويلاحظ أن هذا النص يتعلق بأحقية المستأجر في الفسخ، لكنه لم يتطرق لحق المؤجر في الفسخ.
وبالطبع، فإن طلب فسخ العقد لا يعني أن العقد ينفسخ من تلقاء ذاته، وإنما من الضروري أن يتقدم المستأجر بإجراء قانوني، ويُعد العقد مفسوخاً من تاريخ صدور الحكم القضائي بالفسخ إذا قبلت المحكمة ذلك.
ويثور السؤال: هل يمكن اعتبار عقد الإيجار مفسوخاً في حالة بقاء العقار رغم أن الطرفين لم ينفذا التزاماتهما لمدة قد تزيد عن عامين؟ وهل يمكن الاستناد إلى المادة 318 (ب) والمادة 130 المتعلقتين باستحالة تنفيذ العقد كأساس لاعتبار علاقة الإيجار منقضية؟
في تقديري، أن الإجابة يتعين أن تكون بالنفي، وأن علاقة عقد الإيجار تظل مستمرة رغم انقطاع تنفيذها لفترة تزيد عن عامين. فقد ذهب الفقه القانوني إلى أن الاستحالة المقصودة في الفسخ القانوني، المذكورة في هذه المواد، يجب أن تكون استحالة مطلقة، وليست استحالة نسبية. بمعنى، إذا كان من الممكن تأجيل تنفيذ الالتزامات التعاقدية، فإن العقد لا ينفسخ.
عضّدت هذا المفهوم السوابق القضائية في نظم قانونية أخرى. فعلى سبيل المثال، في (الطعن 865 لسنة 53 ق جلسة 30/1/1991 مكتب فني 42 ج 1 ق 55 ص 336)، ذهبت محكمة النقض المصرية إلى رفض حكم قضى بانفساخ عقد إيجار عقار بسبب نشوب حرب 1967، وعدم قدرة الطرفين على تنفيذ التزاماتهما بسبب الحرب، رغم أنه أمكن تنفيذ العقد بعد انتهاء الظروف التي خلقتها حالة الحرب. وذكرت محكمة النقض في ذلك:
“ما خلص إليه وما ثبت من الدعوى من بقاء العين المؤجرة، بعد أن زال الاحتلال، أنها صالحة للغرض الذي أُجرت من أجله، وأن من شأن القوة القاهرة استحالة تنفيذ عقد الإيجار استحالة مطلقة، إنما ينحصر في وقف تنفيذ العقد، حتى إذا ما زال الحادث الذي كان يعوق تنفيذه واستردّ المطعون عليهما – المؤجران – العين المؤجرة، فإن التزاماتهما الناشئة عن العقد تكون واجبة التنفيذ، وإذا خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر، ورتّب على توافر القوة القاهرة، بطريق اللزوم، انفساخ عقد الإيجار، فإنه يكون قد خالف القانون”.
ويبدو نفس هذا الاتجاه في النظم التي استمدت قواعدها القانونية من الشريعة العامة الإنجليزية، والتي هي أكثر تشدداً في تطبيق قاعدة الاستحالة. فقد ذهبت المحكمة العليا الإنجليزية في قضية: Sushila Devi And Anr vs Hari Singh And Ors، إلى القول:
“إن الاستحالة المنصوص عليها في المادة 56 لا تقتصر على ما هو غير ممكن من الناحية البشرية. فإذا أصبح تنفيذ العقد غير عملي أو عديم الفائدة بالنظر إلى غرض ومقصد الطرفين، فيجب اعتبار أن تنفيذ العقد قد أصبح مستحيلاً. ولكن يجب أن تكون الأحداث الطارئة قد أزالت الأساس الجوهري للعقد، وينبغي أن تكون من طبيعة تُصيب جوهر العقد وتمس جذوره الأساسية”.
ثالثاً: تسوية الحقوق بين أطراف عقد الإيجار
في ظل النقص التشريعي الحالي، فإن حقوق الأطراف، بما في ذلك الأجرة عن فترة عدم استغلال العقار المستأجر، فيتعين أن تتم على أساس التسوية بينهم بما يحقق العدالة للمؤجر والمستأجر. أما في حال عدم الاتفاق، فإن الحكم القضائي الذي يرد التزامات الأطراف إلى الحد المعقول يعدّ من أفضل الخيارات، وفقاً لقاعدة الظروف الطارئة.
بقلم:
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب



