الخرطوم تجمع بين شاعرة عراقية ومخرج سوداني بعد 17 عاما
كنت حينها اشهر طالب عربي في كلية الفنون الجميلة في العراق .. ارتدي سروالا فضفاضا وقميصا طويلا وشعري الطويل اعقده بقطعة من المطاط الناعم ويتدلي سلسالي من صدري المفتوح نتيجة استهتاري الظاهري .. كانني بوهيمي يشبه حركة اليسار في اوربا منتصف السبعينيات . يختلف الطلاب العراقيين حولي فقلة منهم كانوا يحبونني لثقافتي العالية وقدرتي علي التعبير ..والاغلبية كان يصدمهم كسري للصورة الساذجة عن السوداني الطيب ؛ الذي يتواري في مخيلتهم ؛ السوداني الذي يعيش علي الهامش ؛ السوداني الصادق الامين الذي هو اهل للثقة .. بالطبع لم اكن ذلك الشخص .. كنت كمصطفى سعيد في رواية «موسم الهجرة الى الشمال» .. كنت «عطيلا» يولد من جديد منتصف الثمانينيات .. يلتف حولي عدد من الجميلات والاصدقاء الرائعين واغرس قلبي في مواطن الابداع العراقي الذي لا ينضب. احضر المنتديات واناقش واكتب الشعر واشارك بالتمثيل في اعظم الاعمال المسرحية واتحدث في الدين والفلسفة والتاريخ والنقد.
في تلك الاجواء التقيت بسمرقند الجابري .. كانت ومازالت من اجمل العراقيات اللواتي قابلتهن …كانت تسيل شعرا بفتح الشين .. شعر غجري طويل يسافر في كل الفضاءات .. ..كأنه في تحد مع اعين الناظرين .. وخال يدعوك للتوقف في وجهها الواضحة ملامحه .. كانت شجاعة لا ترخي نظرها الي الارض كغالبة العراقيات .. بل ترد عليك بنظرة صارمة تجعلك تجفف ظنونك في انسحاب سريع … سمرقند تضحك بطفولة وتحب الحياة ولا تخشي احدا… كانت تدرس في قسم الفنون التشكيلية وتكتب الشعر وكان هذا سببا كافيا لالتقائنا… .. السوداني المشبوه والحسناء
اصبحنا صديقين .. كانت تقف وتتمشي معي ونتبادل اطراف ألم المعرفة.
لا انسي ذلك اليوم الشتائي الممطر .. كان الطلاب جميعهم يحتمون من المطر بنادي الكلية الذي اكتظ بهم وانا اقف خارج النادي محتميا من المطر كأي افريقي يخاف البرد والمطر والنساء الجميلات .. جاءت مبللة بالماء الذي يتدفق منها كينبوع للحياة .. وقالت لي : ايشبيكم جبناء .. تخافون المطر ؟ يلا وياي نغتسل فيه.
لم تكن باي حال اشجع مني ، وركضنا تحت المطر وضحكاتها الطفولية تهزم زخاته بالجمال .. تبللنا تماما ..واغتسلنا تحته من ادران زمن القبح والحرب.
هل احببتها ؟
هل طلبت منها الزواج ؟
تظل هذه تفاصيل لا اذكرها .. لان الصداقة مع سمرقند الجابري اكبر من اي حديث دنيوي…
هذه المرأة الآسرة التي تسيل حياة وعذوبة وصراحة وشجاعة
التقيتها في الخرطوم بعد سبع عشرة سنة…
جاءت كشاعرة كبيرة بدعوة من مجلس الشباب العربي والافريقي.. امسكت يدي وبكت .. بكت .. بكت . بكت قرابة النصف ساعة .. كنت اعلم انها تبكي العراق الجميل .. تبكي العراق الآمن .. تبكي اياما من الطفولة والصبا والكبرياء .. تبكي النقاء والبراءة … تبكي الوجود الانساني الذي قصفته الطائرات…
ياسر عوض
الشروق