حرب اللغات الأهلية لفتح الخرطوم
حرب اللغات الأهلية لفتح الخرطوم
_ عبد الله علي ابراهيم _
(في سياق الحرب القائمة في يومنا لحيازة الخرطوم أعيد نشر جزء من بحث عنوانه “صفوة البجا: من قيد الاستضعاف إلى القوة” درست فيه حيل أمثال المرحوم أبو هدية، الناشط العظيم لنهضة البجا عن طريق تعليم صبيانهم، ليخرجوا من الضعف للقوة بمكر استثنائي. وقدمت الورقة في الإنجليزية لورشة انعقدت بسنكات في نحو 1990 تناصرت عليها جامعة الخرطوم وجامعة بيرقن النرويجية في مشروع جمع بينهما لدراسة آثار الجفاف والتصحر على مجتمع البجا. ونشرها لايف مانقر في الكتاب الذي حرر فيه أوراق الندوة (1991). ولفت نظري للمبحث عناية بعض صفوة البجا برد اسم الخرطوم إلى لغتهم كأنهم يغزونها، وهي التي استعصمت بالبعد عنهم، باللغة. وهو ما سبقتهم إليه جماعات سودانية أخرى. وهذا ما سميته حرب اللغات الأهلية لفتح الخرطوم).
تدور حرب لغوية غير معلنة بين العديد من المجموعات العرقية السودانية لامتلاك الخرطوم، المدينة العاصمة، كوطن أصلي لها دون بقية الجماعات. وتدعي كل من هذه المجموعات أن اسم ” الخرطوم ” مشتق من لغتها. وتحاول بذلك إثبات أنها الساكن الأصلي لمركز السلطة الوحيد بالبلاد.
لقد اعتبر الناس في الشمال النيلي وغيرهم طويلاً كلمة ” الخرطوم” كلمة عربية تعني خرطوم الفيل. ويقال في هذا السياق أن العاصمة القومية سميت ” الخرطوم ” لأنها مكان التقاء النيلين الأبيض والأزرق وموضع التقائهما يشبه خرطوم الفيل.
ولكن هذا الادعاء العربي يواجه بالاعتراض من جانب الدينكا والنوبة الشمالية. فيقول بعض مثقفي الدينكا إن اسم “خرطوم” هو صيغة محرفة للكلمة الدينكاوية ” كيرتوم – Kiertoum ” والتي تعني أيضاٌ ملتقى النهرين. وبالإضافة إلى ذلك فإن الدينكا يتتبعون أسماء بعض ضواحي الخرطوم مثل “بري ” حتى يصلوا بها إلى أصول دينكاوية. أما النوبة فيصف أحد كتابهم ادعاء الدينكا لاسم ” الخرطوم” بأنه ” مفهوم خاطئ ولا يعدو أن يكون خيالاً”. ويرجح أن “خرطوم ” جاءت في الأصل من اللغة النوبية. وتأتي وجاهة هذا الافتراض، فيما يقول محمد إبراهيم أبو سليم، من كون الخرطوم تقع في قلب مملكة النوبة العليا التاريخية، التي كانت عاصمتها سوبا (إحدى ضواحي الخرطوم اليوم). ولم يقدم أبو سليم أي أصل لغوي نوبي محدد للاسم، لكن حسن شكري يرى أنه – أي الاسم – كان في الأصل ” أقارتوم – Agartum ” وتعني مقر أو مقام أتوم (Atum) إله الخلق عند قدماء المصريين. ويرى شكري أيضاٌ أن اسم توتي – الجزيرة المحاذية للخرطوم – هو تحريف للكلمة المصرية القديمة ” توتد Thutid ” وتعني حاجب معبد توت – Thut، إله الحكمة.
يخالف البجا كافة الحدوس والاجتهادات آنفة الذكر حول أصل كلمة “خرطوم”. فرأى أدروب أوهاج أن الكلمة بجاوية. ويقول إن بعض المجموعات السودانية قد تنجح في رد كلمة “خرطوم” إلى لغاتها المخصوصة. ولكن تبعة البرهان أكبر. وهو يحتم عليها أن تجد أصلاً في لغاتها المختلفة لا لكلمة “خرطوم” وحدها، بل لطائفة كبيرة من اسماء الأماكن الأخرى التي تكتنف العاصمة. ولا يكتفي أدروب في دعم نظريته برد الخرطوم إلى أصل بجاوي، بل يورد جدولاٌ بالأصول البجاوية لأسماء العديد من ضواحي المدينة.
وحسب رؤيته فإن “خرطوم ” تحريف لكلمة ” هارتوما – Hartouma ” البجاوية والتي تعني ” اجتماع “. ومن الجلي أن كلمة ” اجتماع ” قريبة الصلة بـ” ملتقى” الأنهار وهو الأصل في فكرة اسم ” خرطوم ” في كافة اللغات التي تعرضنا لها. ولكي يتفادى أدروب تأسيس نظريته على مفردة واحدة فقط فهو مشغول ببحث يتتبع فيه الأسماء ذات الصلة بالخرطوم في اللغة البجاوية. ويوضح الجدول التالي ما توصل إليه:
ضاحية الخرطوم الأصل البجاوي المعنى
كرري كاري + ري
كاري = إنسياب، جريان
ري = مجرى مجرى الماء
شمبات شم + بات
شم = قليلاٌ
بات = مائل قليلاٌ إلى جانب (شجرة) مائلة قليلاٌ إلى جانب
توتي توي + تِ + يي حيوان كاسر سواء كان تمساحاٌ أو فرس النهر
بري اللاماب اماب = نوع من الشجر
بر = مكان المكان الذي ينمو فيه شجر الاماب
باقير با + أقير المكان الذي يمنع الماء من الارتداد إلى الوراء
في سياق حرمان البجا من دست السلطة يمكن اعتبار نظرية أدروب عن أصل اسم الخرطوم، بغض النظر عن مدى صحتها، محاولة رمزية لاحتلال سدة السلطان السوداني باللغة. وبرد البجا اسم الخرطوم وما يتصل بها من أماكن إلى لغتهم فإنهم يقيمون الحجة على بعد غورهم في تاريخ البلد. فإذا كان اسم مركز السلطة في البلاد مشتقاٌ من لغتهم فإنهم قمينون، بالتالي، بنصيب عادل من تلك السلطة.