الصحافة السودانية والشعبويون.. الصدام الأخير على مواقع التواصل
الصحافة السودانية والشعبويون.. الصدام الأخير على مواقع التواصل
ــ شعراوي محمد ــ
بمجرد أن بدأت الصحافة السودانية بالتأقلم والتكيف مع العصر الرقمي وتحدياته، ظهرت في سباق مع تيارات واسعة، تدفعها لمناهضة خطابات الكراهية والدعوات للعنف، التي أخذت منحى تصاعديًا في خضم الحرب الدائرة الآن، وما نتج عنها من انتهاكات على المدنيين من قتل وتشريد ودمار طال أجزاء واسعة من السودان.
نتناول في هذا المقال كيف وظف الشعبويون مواقع التواصل الاجتماعي في إيصال أفكارهم؟ وما تأثير هذا التوظيف من الخطابات، ونشر أيديولوجياتها، على الصحافة السودانية في ظل استمرار الحرب؟ وما هي طبيعة الانعكاسات المترتبة على هذه الخطابات في السودان؟
الدعوات للعنف والعنصرية لم تعد سوى “خطاب المفاصلة” بين مهنة الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي في السودان، فإن تنامي الخطاب الشعبوي أصبح يستقي فكرته من هوية هشة، عجزت الصحافة في وقتٍ سابق عن تقويتها وترميمها، بل أدارت ظهرها للسلوك العنصري في استخفاف منها، غير مدركة للعواقب والشعبوية التي تخطت سلم المجتمع الواحد، وأنتجت مجتمعات تروج لأفكارها على مواقع الإنترنت في منصات كـ”فيسبوك، إكس، تيك توك” وغيرها.
وتظهر وسط ذلك النزعات المتباينة بين عربية نهرية وأخرى غربية أفريقية، وغيرها وليدة عوامل ثقافية تنبت في جغرافية هذا البلد المستعر بالحروب والنزاعات منذ استقلاله وحتى اليوم.
إن خطابات الكراهية استغلت عدم وجود صحافة في السودان تناهض وتقاوم بسبب الحرب، وهو ما عزز حظوظ من أطلقوا هذه الخطابات العنصرية ونشروا فكرتها عبر الإنترنت، وقد وجدت رواجًا في الحرب وفيما يتعرض له السواد الأعظم من السودانيين من انتهاكات وفقدان للأرواح، مادة للمزايدة لتحقيق الغايات.
لقد شهدت مواقع التواصل في السودان حالة من تنامي الخطاب الشعبوي الذي يبرز فيه إعلاء شأن القبيلة، ونشر الكراهية والعنصرية على إقليم دارفور، ومناداة بتقرير المصير والانفصال عنه، تحت ذريعة أن ما يحدث في ولاية الجزيرة والإقليم الأوسط بشكل عام، يرجع سببه للحواضن الاجتماعية لغربي السودان، والتركة الثقيلة من الحروب.
لاقت هذه الخطابات ردة فعل قوية مناهضة لها من المجتمع، وأخرى مؤيدة وداعمة لهذه النعرات العنصرية من المعسكر الموازي، من الذين يشهرون خطابات المظلومية من النخب النيلية ووصفهم بالـ”جلابة” و”دولة 56″، إشارة لاتهامهم بأنهم من يتحكمون في قرار السودان منذ أن نال استقلاله في العقود الماضية وحتى يومنا هذا، وهي بطبيعة الحال سرديات تتغذى من الخطاب ذاته، وإن تغيرت ملامح من أطلقها في المجتمع السوداني.
تقول الصحفية أفراح تاج الختم، رئيس قسم التحقيقات سابقًا في “اليوم التالي” السودانية: “إن الشعبويين وجدوا في مواقع التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لزرع ونشر الانقسامات داخل المجتمع السوداني، من خلال استمالة العواطف وتوجيه الرأي العام بشكل يغيب فيه العقل أحيانًا. وقد ساهم ذلك في تشكيل وعي جماهيري مشوش، في ظل غياب تأثير الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وكذلك افتقار المعلومات والبيانات الحكومية لما يدور على الأرض.
كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور بارز في تأجيج الصراع العرقي، كما حدث في غربي دارفور.. وقد استُخدمت وسائل التواصل الاجتماعي للتحريض على العنف ضد أفراد أو جماعات معينة، من خلال نشر أخبار مضللة وصور مزيفة، وتم استغلال الهوية القبلية في خطابات التحريض، حيث أصبحت القبائل الكبرى هدفًا للتلاعب من قبل الجهات السياسية والشعبوية. كما استُخدم خطاب الكراهية ضد المنظمات الإنسانية باتهامها بالعمالة والخيانة.
تعاني معظم وسائل الإعلام السودانية من غياب منهجية التحقق من المعلومات، كما تركز على عرض وجهة نظر طرف واحد دون غيره، وهذا أدى إلى زيادة التشكيك والتخوين بين الصحفيين الذين يحاولون الحفاظ على المهنية والموضوعية. وانعكس خطاب الكراهية سلبًا على الجهود الإنسانية، وأسهم في إضعاف النسيج الاجتماعي السوداني من خلال تفكيك الروابط الاجتماعية التقليدية.
تجد أفراح تاج الختم أن “الانقسام الظاهر على مواقع التواصل الاجتماعي أدى إلى رفض التفاوض والحوار، وبرز تيار عريض يتبنى هذه التوجهات، داخله إعلاميون مؤثرون”. وترى أفراح أنه “نتيجة الاستقطاب السياسي والاجتماعي، أصبحت مسألة التوصل إلى حلول وسط أو تسويات سياسية لإنهاء الحرب أكثر تعقيدًا”.
تدل المؤشرات على أن الحرب الحالية قد تتحول إلى حرب إثنية مناطقية واسعة إذا استمر الوضع على ما هو عليه. لذلك، تبدأ مناهضة خطاب الكراهية بتفكيك أهدافه التي تسعى إلى تقسيم المجتمع السوداني.
كان الجدال حول الهوية حاضرًا يرتقي لمستوى السياسيين، الذين كانوا يستخدمونه كأداة ضغط للكسب السياسي والمحافظة على حظوظهم في السلطة، إلا أن المجتمع كان يتغذى من هذه الخطابات، رغم معرفته بنوايا الساسة ومساعيهم الشخصية، حتى وصل لمرحلة الانفجار والمجاهرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح لهيبًا تزداد رقعته الجغرافية بين ولايات السودان المختلفة. وهذا ما شكل تحديًا للصحافة وطبيعة عملها في ظل ما تشهده البلاد من صراعات مسلحة، لا سيما ما وقع في قرى ولاية الجزيرة وإقليم دارفور.
تقول حنان الطيب، الصحفية في موقع “الساقية برس” الإخباري: “إن الخطاب الشعبوي وجد في الحرب المشتعلة أرضًا خصبة في ظل غياب الصحافة السودانية عن المشهد، وتسيد الموقف في استخدام الصراع الدائر لمخاطبة فئات المجتمع عبر الإنترنت، وأصبحت الداء العضال الذي يحدق بالمجتمع ويهدم قيمه وتقاليده، مع توفر الشبكات الرقمية التي أصبحت ساحةً ومتنفسًا دون قيود ورقابة للمحتوى الذي ينشر عليها، ساعد ذلك في توسيع الهوة بين أبناء الوطن الواحد، وتفكك النسيج الاجتماعي، وهدم السلام والاستقرار”؛ وتوضح حنان الطيب أن “دور الصحافة أصبح غائبًا تمامًا في ظل الأوضاع الحالية”.
لقد ظلت دارفور من القضايا المركزية في حوارات المثقفين والنخب السياسية، وفي نقاشاتهم عن المظلومية والتهميش لفترات طويلة، كقضايا وجدت لتبقى في أذهان السودانيين ونظرتهم لتنوع ينصاع لمفاهيم واقعهم، ويمنح تجربة الحرب التي اندلعت في الإقليم آنذاك فرصة للتعايش.
ومع ذلك، لم تتكلف الصحافة عناء المشاركة في هذه الحوارات ونأت بنفسها عن صراع الطبقات المجتمعية وأحاديثهم، اختارت ساحات أخرى لتبرز دورها المهني تاركة الخطابات الشعبوية تنمو في صمت حثيث حتى وجدتها تنازعها تقاليدها المهنية في فضاء يتصيد أخطاء الآخرين دون رحمة، ويعطي مساحات للتنفيس عن أفكار لم تجرؤ وسائل الإعلام في السودان على طرحها، رغم أن كل الشاشات والإذاعات والصحف تعج برسائل السلام والتنوع لهذا البلد وأعراقه المختلفة.
ومع ما تحظى به وسائل الإعلام في السودان من مكانة داخل المجتمع، كصوت قادر على نشر الوعي ولم اللحمة الوطنية تحت سقف العدالة التصالحية، فإنه تنتظرها تحديات كبيرة في ظل انتشار خطاب الكراهية على المواقع الأسيفرية، وكيفية المواجهة لهذا الواقع.
ومع ذلك، يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال تعزيز المهنية داخل المؤسسات الإعلامية، والتدريب والتوعية، والتعاون مع مختلف الأطراف.
من خلال هذه الجهود، يمكن لوسائل الإعلام المحلية أن تؤدي دورًا حيويًا في بناء مجتمع ديمقراطي ومتسامح، يدفع بالشعور الداخلي لمجابهة هذه النعرات والتصدي للعنصرية.