في أغراض هجمات بورتسودان

في أغراض هجمات بورتسودان

في بدايات هذا العام (2025)، ومع تحرير الجيش السوداني مدينة ود مدني، وفرض سيطرته على قلب العاصمة الخرطوم بعد انسحاب غير متوقّع لمليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي)، سرت حالةٌ من التفاؤل بين السودانيين، وبدأت أعدادٌ كبيرةٌ بالتفكير في العودة إلى البلاد بعد هجرة قسرية دامت نحو عامَين.

وفي هذا الأسبوع، استطاعت هجمات غادرة أن تقطع الطريق على حالة التفاؤل هذه، وأن تصيب كثيرين ممن كانوا في طريقهم إلى العودة بالإحباط. كانت هذه الهجمات موجّهةً لمدينة بورتسودان، في شرقي السودان على ساحل البحر الأحمر، وتمثل العاصمة الإدارية والسياسية التي انتقل إليها الحكم مؤقّتاً منذ سيطرة قوات حميدتي على القصر الرئاسي في الخرطوم.

لم تقم هذه الحرب على استهداف القواعد والتمركزات العسكرية للجيش السوداني فقط، وإنما امتدّت لتشمل إلحاق الضرر بمكوّنات بعينها في وسط السودان وشماله

استهدفت إحدى هذه الهجمات فضاء مطار بورتسودان، الذي أصبح مطارَ البلاد الرئيس عقب تعطّل مطار الخرطوم وخروجه من الخدمة. أحدث هذا الهجوم ارتباكاً كبيراً، فعلى الرغم من التطمينات التي سارعت الجهات المتخصّصة إلى تقديمها عقب الهجوم، موضّحةً أن ذلك الاستهداف لم يسبّب أيَّ أضرار بليغة قد تؤثّر في حركة الطيران، إلا أنه كان لتلك العملية آثار سلبية، من أهمها اضطرار السلطات إعلان توقّف عمليات الإقلاع والهبوط بعض الوقت ريثما تُراجَع إجراءات السلامة والتأمين، وهو وضع له تأثيراته السلبية في عالم الرحلات الدولية. تلت ذلك الهجوم هجمات أخرى استهدفت بنىً تحتيةً كان من أهمها مستودعات النفط الاستراتيجية. تسبّبت تلك الضربات المتعاقبة باندلاع النيران بشكل مخيف ساعات طويلة، ما شكّل مشهداً مؤلماً زادته دراميةً صعوبةُ السيطرة على ذلك الحريق.
قرأ بعضهم هذا التصعيد في إطار الردّ على عملية مباغتة قام بها الجيش السوداني في مدينة نيالا. أسفرت تلك العملية عن مقتل عدة متمرّدين وتدمير كمّ من العتاد الحربي، خاصّةً المتعلّق بمنظومة المسيّرات، لكن المتابع لسلوك المليشيا منذ بداية الحرب يمكنه أن يعرف أنها لا تحتاج إلى مبرّر من أجل القيام بعمليات التدمير والتخريب، بل إنها عُرفت (منذ بداية الصراع) بتركيزها في المنشآت المدنية في المدن التي استطاعت أن تصل إليها.
باستخدام الطائرات المسيّرة، سبق للمليشيا أن استهدفت سدّ مروي في شمالي السودان، كما استهدفت مستودعاتِ نفط ومراكزَ طاقة كهربائية في أكثر من موقع ما تسبّب في انقطاع التيّار الكهربائي عن عدّة مدن. وقد استهدفت المليشيا التخريبية أيضاً (في الأيام السابقة) مطارات أصغر كمطار دنقلا ومطار كسلا مخلّفةً خسائرَ وحالةً من الفوضى. مع ذلك، كانت للهجمات الأخيرة على بورتسودان رمزيةً خاصّةً، فالمدينة تمثّل رمز السلطة وقلب الحكومة، فيما يمثّل مطارها العلامة الأكثر أهميةً على تطبيع الحياة والارتباط بالعالم. مثل هذا الاستهداف المتكرّر، وإن لم يؤدِّ (حتى الآن) إلى إخراج المطار عن الخدمة بشكل نهائي، كما حدث لمطار الخرطوم، إلا أنه قد ينجح في إحداث حالة من التشكيك والارتباك، التي ستكون متناقضةً مع مساعي توسيع حركة الملاحة الجوية، فهي ستؤدّي، من ناحية، إلى زيادة تكلفة التشغيل، كما يمكنها أن تؤدّي، من ناحية أخرى، إلى تأخير وصول شركاتٍ ناقلةٍ كانت ترغب في أن تبدأ رحلاتها إلى بورتسودان.

من هنا، يمكن الانتقال إلى السؤال التالي: ماذا تستفيد المليشيا المتمرّدة على الدولة من هذه الهجمات التي لا تتوجّه نحو أيّ هدف عسكري؟… هناك إجابة يمكن أن تتبادر إلى الذهن بهذا الشأن، إن المليشيا إنما تحاول العودة إلى التفاعل الإعلامي وتثبيت اسمها، الذي ارتبط بالتراجع (والانسحاب) في الأشهر الماضية من ساحة الأحداث، عبر تنفيذ ضرباتٍ تشمل مواقعَ استراتيجية. ويمكن أن تكون هذه الإجابة مقبولةً في حالة التعامل مع هذا التمرّد مجرّد تمرّد سياسي فرضه تنازع على الحكم والسلطة، فيكون استهداف الأعيان المدنية فعلاً استثنائياً لا يهدف إلا لإيجاد حالة من الضجّة الإعلامية والإنسانية، التي قد تساعد في الضغط على الطرف الآخر. إلا أن الوضع مع جماعة حميدتي، المسنودة من قبائل الجنجويد، مختلف، فهذه الجماعة، بحسب سلوكها وخطاباتها السياسية المُعلَنة، لا تفرّق بين الدولة ومواطنيها من خارج الإثنيات التي تتبنّى منطقها. لهذا السبب، رأيناها وقد دخلت منذ اليوم الأول حرباً مفتوحةً مزدوجةً مع كلّ من الجيش الرسمي والغالب من المواطنين، الذين (وفق منطقها) يساندون الجيش والدولة المركزية بسبب أنها توفّر لهم امتيازات وفرصاً لا توفّرها لغيرهم من سكّان السودان، وخاصّة من أبناء المناطق التي يرون أنها مهمّشة.

تتعامل مليشيا حميدتي مع مكوّنات ومناطق جغرافية بعينها بشكل عنصري، ما يفسّر جرائمها من نهب وتعذيب واغتصاب

لم تقم هذه الحرب المفتوحة المزدوجة على استهداف القواعد والتمركزات العسكرية للجيش السوداني فقط، وإنما كانت تمتدّ لتشمل إلحاق الضرر بمكوّنات بعينها في وسط السودان وشماليه. هذه المكوّنات، وفق أدبيات نظرية “المركز والهامش” العنصرية المؤسّسة للتمرّدات السودانية، استفادت عبر العقود، وحصلت على سلطة وثروة لا تستحقّها. حميدتي بالنسبة لكثيرين من أتباعه بمثابة مرسلٍ من الله لأبناء القبائل المهمّشة من أجل الانتقام من الدولة الظالمة ومؤيّديها، ومن أجل إعادة ترتيب خريطة الثروة في البلاد. بهذا المنطق، اندفع الآلاف بحقد بعد سقوط الخرطوم بادئين حملةً لم تقتصر على سرقة البيوت والمؤسّسات والمصانع، بل تعدّت ذلك إلى تخريبها بشكل متعمّد أو حرقها بشكل يجعل محاولات الاستعادة وإعادة التشغيل صعبةً. الإفقار، الذي حدث للنخبة البرجوازية التي كانت تعيش في الخرطوم، وفي وسط السودان، لم يكن مجرّد أثر من آثار الحرب وتداعياتها، وإنّما كان أمراً مقصوداً لذاته. الحقيقة هي أن تلك المليشيا كانت (ولا تزال) تتعامل مع مكوّنات ومناطق جغرافية بعينها بشكل عنصري. هذا يفسّر جرائمها الغريبة، التي تتجاوز النهب والاستيلاء على البيوت إلى التعذيب والاغتصاب.

مدى الفاتح



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.